
لماذا سيكون التغيير القادم من الهامش وبصورة مسلحة، ولا يمكن أن يأتي من المركز عبر الهتاف والأدبيات والعمل السلمي المدني؟
كما وضحت في المقال السابق، إن المركز لا يمكن أن يُسقط نفسه بنفسه، لأن أي عملية تغيير جذرية حقيقية تعني إسقاط امتيازاته، وهدم البنية الفوقية التي يعيش فيها، وهذا أمر لا يمكن أن يقوده المركز ذاته. وإذا حاول المركز قيادة تغيير حقيقي يفكك السودان القديم بامتيازاته، فإنه سيتراجع بمجرد أن يشعر بالخطر يقترب من امتيازاته.
أما الهامش، فالوضع مختلف تمامًا…
الهامش لا يملك شيئًا ليخسره، فقد وُلد داخل الحروب، وترعرع في التهميش، وعاش القهر والظلم الممنهج من دولة 56..
الهوية مصادرة، الحقوق غائبة، الخدمات معدومة، والعدالة لم تصل أبدًا إلى هناك…
لهذا السبب، الهامش لا يملك رفاهية الهتاف ولا منابر التنظير وتنظيم العمل السياسي المنظم والأدبيات السلمية، ولا شبكات المصالح المرتبطة بدولة 56…
الهامش لديه وسيلة واحدة للفعل السياسي للأسف، وهي السلاح، وليس العنف من أجل العنف، بل هو الأداة الاضطرارية المتوفرة لديه، لأنه لا يوجد طريق آخر مفتوح أمامهم بعد أن أغلق المركز أبواب الحراك السلمي، وبدلاً من ذلك جرى تعمية الواقع نتيجة التهميش وغياب التعليم الكافي، وسد كل المنافذ التي يمكن أن تدخلهم إلى المشهد…
عندما يحمل الهامش السلاح، فهو لا يحمله من أجل السلطة أو الكرسي، وهي مطالب مشروعة بالطبع، لكنها تكون في ظل توزيع عادل للثروة والسلطة. هو يحمل السلاح لكسر دولة 56 المحتكرة لكل شيء، وفتح طريق لم يستطع المركز فتحه، أو عنى المركز بتعنت عدم فتحه بسبب امتيازاته، طريق سودان جديد حقيقي لا تتحكم فيه القبيلة، أو الجهة، أو اللغة، أو اللون…
ناس الهامش عندما يخوضون الحرب، لا شيء يربطهم بمراكز النفوذ القديمة، لا يمتلكون امتيازات تاريخية تمنعهم من الاستمرار، ولا ارتباطات أسرية أو قبلية مع الدولة القديمة، دولة 56، لهذا فهم قادرون على الاستمرار والمواجهة ودفع الثمن…
الجيش ومؤيدوه من مكونات دولة 56، عندما واجهوا الظاهر، لم يكن مجرد صراع مسلح بين طرفين، بل كان صراع بقاء لدولة الامتيازات التي شعرت لأول مرة بوجود طرف جاد يهددها وجوديًا، وليس فقط سياسيًا. حتى بعض معارضي النظام القديم وقفوا، بوعي أو بدون وعي، في صف الدفاع عن الدولة القديمة، لأنهم أدركوا أن “العدو الجديد” ليس قادمًا للتفاوض، بل قادم لهدم السودان القديم وإعادة بناء السودان الجديد.
لهذا، أي شخص يتوقع أن التغيير الحقيقي للسودان يمكن أن يأتي من داخل المركز وبالهتاف فقط، فهو يعيش في وهم أو يرفض رؤية الحقيقة ويتغافل عنها، لأن امتيازاته مهددة بالزوال.
المركز لا يسقط نفسه، بل يعمل بكل طاقته للحفاظ على السودان القديم كما هو، وأي تغيير يحرص أن يكون فوقيًا لا يمس امتيازاته.
أما الهامش، فلا يملك شيئًا يخاف فقدانه، لكنه يملك حلمًا بسودان جديد، سودان العدالة، سودان كل السودانيين، سودان تكون فيه المواطنة أساس الحقوق والواجبات.