
دور الزَّمن في تكوين القيمة (الجزءٌ الخامس)
فبالنسبة لدور الألة في خفض قيم السلع، فمن الملاحظ وبوضوح أن العالم الرأسمالي المعاصر في العشرين، وربما الثلاثين، عامًا الماضية قد شهدَ تطورًا مُتسارعًا في قوى الإنتاج الاجتماعي؛ إذ صار يسيرًا، بمجرد الضغط على زرٍ في لوحة المفاتيح، انتقال، وفي لحظة، مليارات الدولارات من دولةٍ إلى دولة بينهما آلاف الأميال. وربما بلغَ الأمرُ إزالة أمة بأكملها من على ظهر الكوكب، بمجرد الضغط على نفس الزر في لوحة مفاتيح!
لقد حقَّق البشرُ أخيرًا، وبفعل الآلة، بعض الانتصار على خصمَين عنيدَين: الزمن والمسافة. ومع نشوة هذا الانتصار راح الذهنٌ البشري يؤكد انتصاره بالمزيد والمزيد من الابتكار والاختراع والتطوير في حقل التقنية. وهو الانتصار الَّذي استصحب الصراع المرير بين الآلة، المنتصرة تاريخيًّا بسبب التطور المطرد في حقل التقنية هذا، وبين يد الإنسان، الَّتي انفصل بفضلها عن مملكة الحيوان! حتّى باتَ مألوفًا استبدال عشرات، وربما مئات، العُمال بآلةٍ واحدة. آلة واحدة ربما يتم تشغيلها عن بُعد!
هذه الصورة المرسومة أعلاه _ وهي بلا شك مُستقاة من الواقع اليومي الَّذي نلاحظه جميعًا، إنما دون تدقيق _ دفعت البعض إلى تصور، قُل توهَّم، ثورة تاريخية جديدة كالثورة الزراعية والثورة الصناعية! (دون النظر إلى هاتين كأحد المفرزات الفكريَّة لذهن الأوروبي وتصوره عن تاريخ العالم ابتداءً من تاريخ أوروبا!)، وأصبحت التُّرَّهات حول ثورة مزعومة _ بعد اعتبار تلك الثورة من المسلّمات والتعامل معها، بالتبع، كمُعطى غير قابل للمناقشة _ نقطة البدء في سبيل تصور العلاقة الجديدة بين الآلة والعامل؛ فلم تعد العلاقة أساسها “التناقُض” بل أمست قائمة على “الإقصاء”! الإقصاء الدائم وصولًا إلى الخاتمة المأساويَّة للعمل الإنساني، بل والإنسان نفسه؛ حين تعلن الآلة انتصارها للأبد! تلك النتيجة جعلت هؤلاء المؤمنين بأوهام الثورة التاريخيَّة الجديدة يحاولون رسم صورة النهاية الكارثية للعالم المعاصر على طريقة نبوءات الكتاب المقدَّس!
إن تناول مشكلة الصراع بين الآلة والإنسان، وتحليل مصير الإنسانية بأَسْرها من خلال الترويج لثورةٍ جديدة، ثورة قادمة من الغرب، لا يبرزان إلا كمظهرَين لأزمة وعي. تتبدَّى تلك الأزمة على صعيد الهيكل والأداء معًا.
فمنذ هبطَ الإنْسَانُ من فَوق الأشجار وهو لا يكف عن الخَلق؛ فقد توصل، وببراعة، عَبْر حركة التاريخ الملحميَّة إلى جميع التقنيات الَّتي ساعدته في إخضاع الطبيعة لسطوتهِ، وتمكَّن بفضل مواصلة ابتكاراته من تعويض ضعفه؛ ففاق الضواري قوةً وسرعة بل وشراسة وفتكًا، وتَحدَّى الطبيعة بكبرٍ ومَنعة، وتجاوز وَهْنَه؛ فحلَّقَ أعلى من النسور بلا وَجل، وغاصَ في أعماق المحيطات دون خوف، وعلى الماء سارَ حاملاً أثقالَه إلى أبعد الحدود. والإنْسانُ، على هذا النحو، ومنذ البدايات الأولى لم يتوقف يومًا عن الاكتشاف والابتكار والتطوير. ولم يكف لحظًة عن العمل، بفطرته، من أجل الكشف عن الوسائل الَّتي تجعله أغزر إنتاجًا وأكثر رفاهية، مع العمل الدَؤُوب من أجل تطوير تلك الوسائل. لا جديد إذًا، على صعيد الهيكل، يمكن قوله. ربما تغير الشكل، شكل الأداة، شكل الآلة، شكل المجتمع، شكل التنظيم السّياسي، وربما شكل المنتج المباشر نفسه. ولكن يظل الجوهر الواحد لا يتغيَّر ولا يَتبدَّل أو يَتحوَّل. التطوُّر شكلي لا موضوعي.
هذا الـ”شكلي” هو الَّذي ضلَّل هؤلاء المؤمنين بالثورة الجديدة؛ فتوهموا تغيُّر في الـ “موضوع”! فلعل الاتصال الميسور بين أشخاص يبعدون عن بعضهم بعد المشارق عن المغارب، والانتقال اليسير من شمال الكوكب إلى جنوبه. وقيام الآلات بصنع أعقد عمليات الإنتاج، بل والتدمير، بكل دقة، جعل هؤلاء المؤمنين بالثورة الجديدة يزعمون الانتصار لما به يؤمنون! ولكن، الحقيقة التَّاريخية تؤكد إن العالم عَبْر حركة التَّاريخ العظيمة، ومع تحرُّك مراكز الثّقل الحضارية من الشرق إلى الغرب، ثمَّ من الغرب إلى الشرق، ومن الشرق مرة أخرى إلى الغرب، عَرف دائمًا، كما يعرف الآن، نفس أشكال التطور، ونفس المستوى من الإدهاش وذات الدرجة من الإبهار، والاختلاف لم يكن إلا في هذا الـ “شكل”؛
فكما سَحرت الهواتف المحمولة والحواسب الآليَّة والسيارات الفارهة ذات التقنية المتطورة أعين النَّاس، بل واسترقت أرواحهم، في عالمنا المعاصر. قامت، في القرن العاشر الميلادي في بغداد وقرطبة والقيروان، الآلات الميكانيكية، والصمامات، والزيوت العطرية المضاف إليها هيدروكسيد الصوديوم، وكؤوس الكريستال، ونسج الأسلاك المعدنية الصلبة، والعدسات، والكاميرات، وأدوات الجراحة (150 أداة تقريبًا، ولم تزل تستعمل حتَّى اليوم) والخيوط المستخدمة في العمليات الجراحية والَّتي تذوب في الجسم بعد إجراء العملية، والترمومتر، والحاسبات التناظرية، والاسطرلاب، وأجهزة التقطير والفلترة والتبخير والتطهير والأكسدة، والمواد العازلة، والأقواس الهندسيَّة، ونُظم الترقيم الرياضية، قامت كل تلك الأشياء، وهي على سبيل المثال بكل تأكيد، بأداء نفس الدور السَّاحر.
وكما أبهرت المصانع أوروبا في القرن التاسع عشر، انتشرت، في بغداد ونيسابور وإشبيلية وتنيس، المصانع والمعامل الَّتي تستخدم مئات، وربما آلاف العُمال، وتُنتج من أجل السُّوق، بل والسُّوق الدوليَّة، بقصد الربح. وكما نبغ عُلماء أوروبا وأمريكا في عالمنا المعاصر، نبغ، وعلى سبيل المثال أيضًا، أبو يوسف بن إسحاق الكندي، وابن باجة، وابن البيطار، والإدريسي، والبيروني، وابن سينا، والخوارزمي، والزهاوي، والمجريطي، والجزري، وجابر ابن حيان، وابن الهيثم، والدينوري. أن الترويج لثورةٍ جديدة، ثورة قادمة من عند الغربي الَّذي يَزعُم أنه الأرقى، لا يمكن أن ينجح إلا ابتداءً من تشويش الوعي ومحو ذاكرة الإنسانية.