
عثمان ميرغني، الصحفي الذي طالما ارتدى عباءة الحياد المدّعى والاتزان الزائف، عاد مجددًا ليمارس هوايته الأثيرة: دغدغة عواطف البسطاء وتسويق الوهم. في مقاله الأخير الذي اختار له عنوانًا مائعًا: “من هم الأعداء؟”، لا نجد سوى تكرار مبتذل لخطاب اللاموقف، ذلك الخطاب الذي يساوي بين الجلاد والضحية، ويختبئ وراء دخان التعميم المضلل ليبرئ الفاعل الحقيقي ويغرس خناجر الشك في خاصرة القوى المدنية.
عثمان، الذي “عينه في الفيل ويطعن في ضله”، يكتب كما لو أن الحرب في السودان اندلعت وحدها، كعاصفة رملية مجهولة المصدر، لا يعرف من أطلق الرصاصة الأولى، ولا من قصف الأسواق والمستشفيات، ولا من هجّر الناس من بيوتهم وأحرق الخرطوم بمن فيها وما فيها. عثمان، الذي يتظاهر بالاستغراب من انقسام النقاش السياسي إلى “كيزان وقحاتة”، يدرك تمامًا من أشعل الحرب ومن يصر على استمرارها، لكنه يلوذ بالصمت، كما يقول السودانيون “في فمو ماء”.
إن مقاله الأخير ليس سوى خطاب استجداء عاطفي، يحاول فيه أن يتسول الدمع لرئيس وزراء معين بلا شرعية ولا سند شعبي، كامل إدريس، الذي لا يخفى على أحد أنه ليس سوى ورقة توت تستر بها المؤسسة العسكرية والفلول عورتها السياسية. كيف يجرؤ عثمان على الحديث عن “بارقة أمل” بينما كامل إدريس يُساق ليكون واجهة مدنية مزيفة لنظام يعيد إنتاج الكيزان بوجه مختلف، بل وأكثر وقاحة؟ أي أمل يُرتجى من حكومة يشكّلها قتلة الأمس ويُروج لها كتبة اليوم؟
عثمان يعرف أن جميع القوى المدنية، بلا استثناء، رفعت شعار وقف الحرب فورًا، وجلست في كل مائدة ممكنة لبحث السلام، ومدّت يدها لكل المبادرات الوطنية والإقليمية والدولية. ومع ذلك، يغمز عثمان من قناة هذه القوى، محاولًا التقليل من شأنها، في الوقت الذي يمجّد فيه “خطوة تعيين” كامل إدريس وكأنها إنجاز سماوي. لا يا عثمان، هذه ليست بداية الطريق، بل إعادة تدوير لعجلات الخراب.
ثم يذهب عثمان لأبعد من ذلك، حين يطلب من الناس أن “لا يساعدوا الرياح المعاكسة”، وكأن انتقاد تعيين رجل بلا شرعية ولا برنامج ولا حضور جماهيري هو خيانة وطنية! الحقيقة أن أكبر خيانة وطنية هي الصمت عن الجريمة، وتجميل القبح، وتزيين مشاريع الكيزان بطلاء “الوطنية” الزائف.
إن المأساة السودانية اليوم تتفاقم لأن هناك من يحاول غسل أدران الماضي بمياه الخداع الإعلامي. عثمان ميرغني ليس صحفيًا “محايدًا”، بل هو شريك في مشروع تضليل الوعي، وتلميع العسكر والفلول، وشيطنة القوى التي وقفت – وما تزال – في صف الشعب.
فليعلم عثمان ومن يدافع عنهم أن التاريخ لا يُخدع بمقالات باردة، ولا يُكتب بأحبار الخوف والتواطؤ. التاريخ يكتبه الشجعان، أولئك الذين لا يخشون تسمية الأشياء بأسمائها، ولا يهادنون القتلة، ولا يصنعون من أوهامهم جبالًا من الرجاء الكاذب.
كامل إدريس لن يكون رئيسًا للسلام، بل قناعًا مؤقتًا لحرب مستمرة. وعثمان ميرغني، في نهاية المطاف، مجرد بوق آخر للعبة قديمة لم تعد تنطلي على أحد.