منوعات

عمر ترتوري يكتب: النهار يحرق والليل يلدغ

سودان ستار

الحمد لله إنني مؤمن، والمؤمن ينبغي أن يتذكر بأن حر الصيف هو نفس من أنفاس جهنم، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “فأشد ما تجدون من الحر من سموم جهنم”.

 

تشهد ولايتنا الشمالية موجة حر قياسية غير مسبوقة، مع درجات حرارة تصل إلى أكثر من 48 درجة مئوية، والخوف من تفشٍّ محتمل لوباء التهاب السحايا الوبائي في ظل هذا الحر الشديد اللافح بسمومه.

 

أنا ما زلت في صفا القرير بالشمالية، محلية مروي، وكل منحنى النيل حر وسموم وصيف هذا الأسبوع. لذلك زوجات فيصل ود خالتي الاثنين، بسمة وذكية، يطلعن لي سريري في الحوش من بدري قبل المغرب، ويرشن الموية حول السرير بالجردل، لأنني لا أتحمل الحر، ويعلمن أنني زهجان قرفان تعبان اليوم بأكمله من الحر، وكمان الكهرباء قاطعة منذ أكثر من شهر بسبب مسيرات الدعامة، مما زاد الطين بلة.

 

صليت المغرب كالعادة، وجئت مسرعاً إلى سريري، قلت في نفسي: ألقى المرتبة والملاية ساقطات وأرقد وأعاين للسماء بنجومها المتلألئة. ولكن خاب ظني ووجدت المرتبة حارة وكأنها تشتكي من الحمى، مثلها مثل تلفوني الذي لا يتحمل الحر ويتم ترطيبه بالدلاقين المبللة بالموية، شبه الساقط من الزير، لأنه سرعان ما يسخن ودرجة حرارته ترتفع، لذلك أضرب ورفض الشحن في الحر، ومثله تلفونات كثر في القرية.

 

البارحة اختفت القمرة وعجزت لأنها في أيام ذي القعدة الأخيرة، ليلة ظلماء وحر شديد، حتى نزولي من السرير فيه مخاطرة خوفاً من العقارب، لأن العقارب مقطوعات الطارئ يهربن من شدة الحر ويبحثن عن أماكن باردة لا يمكن أن تتساكن فيها مع البشر. ورغم مظهرها الخارجي الذي يشبه الحشرات إلى حد كبير، فإن العقارب تنتمي إلى فئة العنكبوتيات، وتمتلك العقرب أربعة أزواج من الأرجل، ويشكل الطرفان الأماميان كماشة تلتقط بها فرائسها، وهذا من أبرز أوجه الشبه بينها وبين العنكبوت.

 

العقرب مخيفة، وأتذكر أثناء شهور الحرب الأولى، نهضت أم أولادي من سريرها كالعادة مع النباه، أي أذان الفجر الأول، لتصلي وتتلو القرآن. وفجأة، ونحن نيام، سمعتها تصرخ بأعلى صوتها، قالت: طعنها مسمار في إصبع رجلها، ورجلها بدأت تتشل ولا تحس بها، وازداد الألم والخدر والوخز والتورم في الرجل. وبعد معاينة المكان، اتضح أن عقرباً غليظة سوداء اللون لدغتها، وفرغت كل سمومها في جسمها. فقرأ لها الشيخ فيصل بعضاً من الآيات القرآنية، وشربوها ليموناً صافياً، وبعد أن طلعت الشمس، ذهبنا بها لمركز أوسلي الطبي، وهناك لم نجد مصل العقرب، ولكن قدر الله ولطف بها وتعافت. ومن يومها قرروا هي وعيالها السفر لمصر المؤمنة، وياها السفرة اللا يوم الليلة. وأنا رفضت الذهاب معهم، فقلت لهم: أما أرجع للسعودية التي قضيت بها شبابي وجل عمري، أو أموت وأدفن في مقابر ود دار النعيم بقريتنا الصفا بالقرب من أهلي وجدودي.

 

حقيقة، نحن نعيش أوضاعاً مأساوية، وقد اتصل بي أحد الأصدقاء، وهو يسكن بأحد قرى ولاية نهر النيل، قال: الكهرباء قاطعة، ولهم مريض لا يستطيع التنفس، أي يستعصي على الهواء دخول الرئتين بالنسبة له، لأنه يعاني من مشاكل في التنفس وسط موجة الحر، وزيادة انقطاع الكهرباء في هذه القرية. ويضطر هذا المريض، الذي يعاني من تليف رئوي، لقطع رحلات مكوكية ذهاباً وإياباً بين منزله والمستشفى منذ أن ارتفعت درجات الحرارة فوق 45 درجة، مع عجزه عن تشغيل جهازه المنزلي للتنفس الصناعي أو حتى مروحة في المنزل.

 

للمعلومية، أشارت دراسة من جامعة كاليفورنيا إلى أن الحرارة المرتفعة قد تجعل بعض الناس أكثر عدوانية، وتكثر المشاكل والخصام والطلاق وفسخ الخطوبة مع الحر الشديد، وخصوصاً مع كهربتنا المقطوعة.

 

والله إنها فاجعة وألم ومرض وزهج وقرف، وحتى المزارع بخضرواتها وبندورها وباذنجانها وجرجيرها وملوخيتها ماتت من العطش.

 

في هذه الأيام التي يشتد حرها، ويزداد سمومها، وتلفح شمسها، أفر من الحر بعربيتي إلى مروي وكريمة، وألف كل الشوارع، لأن المدينتين أسوأ من قريتنا الصفا، التي لم تكن صافية هذه الأيام. فقط أغش نفسي بأنني أتجول وأتفسح، مثل النائم ويحلم أضغاث أحلام وهضاريب.

 

عموماً، ما باليد حيلة، بل نشكو بثنا لله سبحانه وتعالى.

 

قبل الختام:

مروي ليست بالبناء جميلةٌ، إن مروي جميلةٌ بذويها.

قد يعشق الإنسان أسوأ بقعةٍ، ويزورها من أجل شخصٍ فيها.

 

ختاماً:

في سموم الصيف لاح له بارق

لم يزل يرتاد المشارف

كان مع الأحباب نجمة شارق

ما له والأفلاك في الظلام

يا دهر أهوالك تسارق

منها كم كم شابت مفارق

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى