قراءاتمنوعات

في حوارات يحيى فضل الله وعمر الدوش

سودان ستار

كتب يحيى فضل الله عن حوار دار بينه وبين الأستاذ على المك .  

قال على المك : ” أمبارح كنت. بأسمع فى أغنيتك ( يا ضلنا )

 

ففكرت كيف إهتديت يا يحيى الى هذا المطلع الشفاف ” .. أجاب يحيى فضل الله ” والله يا أستاذ لا أعرف كيف خطرت ببالي الفكرة ولكنى أعرف كيف إستسلمت لهذه الفكرة تماما … وأنت يا أستاذ على عندك مع الظلال حكاية .. أنت منحاز لمعرفة الأشجار بظلالها وليس بالثمار ”

تعرف يا يحيى – هى فكرة فلسفية – فكرة الأصل و الظل – فكرة النقائض – بس الإنحياز هنا يبدو أمر عاطفى جدا ”

طيب انا اذكرك بحاجة – سمعت ” بناديها ” طبعا – عمر الطيب الدوش يقول فيها :

” بفتش ليها فى التاريخ

وأسأل عنها الأجداد

و أسأل عنها المستقبل

اللسع سنينو بعاد

و فى أحزان عيون الناس

و فى الضل الوقف ما زاد ”

 

هنا تفتكر يا أستاذ على ” الضل ” الوقف ما زاد ده – ضل أفقد عمر الدوش الحركة – تعبير عن معنى الثبات – جمود فى الزمن ”

 

فقال على المك ” ما هو شوف – الأغنية دائما عندها القدرة العالية جدا فى انها تسرب للمستمع مفاهيم فلسفية قد تبدو فى غاية التعقيد – يعنى مثلا التساؤلات العميقة عند ناس الحقيبة :

إنت صاحى .. ولا نايم ؟

و لا طرفك من طبعو نعسان؟

نحن هل جنينا

أم عقولنا نصاح ؟

 

” زى ما بقول ليك ببساطة شديدة الأغنية ممكن تقودك – مش كمان أى أغنية – تقودك إلى مفاهيم فلسفية جدا …”

” يبدو يا أستاذ على أن مسألة الظل محور أساسى فى القصة و الرواية مثلا ” الرجل الذى فقد ظله ” أو رواية ” فرانسوا ساجان ” – ” اللذين هم بلا ظلال ”

تفتكر لأنو الظل إنعكاس الأصل فى حالة التعرض إلى ضوء و لا هى مساحة عالية من الإستخدام للتعبيرية ؟

 

– هى فكرة مغرية – فكرة ممتدة – أن تنتزع من الشئ ملامحو – قادر تتصور معاى يا يحيى لو كان فى زول ما عندو ضل – بشكل مادى جدا – يعنى عشان كده هى مش مساحة للتعبير إنما هى مساحة واسعة جدا للتخيل .

 

ثم قال يحيى ” كان حوارى مع على المك حول الظل طويلا و عميقا – كنا نبحث عن مصادر فى الشعر والقصة و الرواية ندعم بها هذا الحوار المتصل – تحدثنا عن الكاتب المسرحى ” فريدريك دونمارت ” فى مسرحيته ” قضية ظل الحمار ” … عن صراع طريف حول ظل الحمار .. الحمار تم إيجاره لطبيب أسنان كى يصل به إلى مريض فى قرية تبعد عن المدينة .. وحين إشتدت حرارة الجو فى صحراء قاحلة جلس الطبيب تحت ظل الحمار … هنا إحتج صاحب الحمار على ذلك بإعتبار أنه قد أجر الحمار للطبيب .. الحمار وليس الظل ! ..إذن هو الذى من حقه أن يجلس تحت ظل حماره .. و لكن الطبيب يعتقد أن الذى إستأجر الحمار من حقه أن يجلس تحت ظله …

واشتد النقاش حتى وصل القضاء و تداعت الأحداث لدرجة أن المدينة إنقسمت الى حزبين .. حزب الظل و حزب الحمار … وأدى ذلك إلى حرب أهلية .. وألتهمت النيران المدينة .. و فى النهاية تساءل الحمار الذى هرب من قاعة المحكمة قائلا ” هل أنا الحمار الوحيد فى هذه الحكاية ؟ ”

 

وحيث أن الشئ بالشئ يذكر ننتقل إلى ماكتبه عبد الوهاب فى جريدة الخرطوم باب ” قضايا ثقافية ” عن خالد الكد … الموضوع كان جيدا جدا بما فيه من أدبيات رائعة وصور جمالية و لغة آسرة … انقل لكم منه ما يتعلق بأغنية ” بناديها ” للشاعر عمر الطيب الدوش .

 

فذات مرة كنت مهموما بأسئلة الشعر التى ينتجها خطاب عمر الطيب الدوش الشعرى .. فهو خطاب غامض و جميل فى ذات اللحظة.. فتتلمذت على الدوش و خالد الكد و كمال لأعرف ما السر فى قول الدوش :

” بناديها و بعزم كل زول يرتاح على ضحكة عيون فيها

بفتش ليها فى اللوحات و فى أحزان عيون الناس

و فى التاريخ وأسأل عنها الأجداد

وأسأل عنها المستقبل اللسه

سنينو بعاد ”

 

قلت ذلك لأن هناك تفاسير سياسية لمعانى الشعر قد تفسده تماما . و نبهنى إلى ذلك خطاب عثرت عليه بدار الوثائق المركزية من الشاعر محمد عبد الحى إلى الدكتور الناقد خالد المبارك . وفيه يتحدث محمد عبد الحى عن قصيدة ” العودة إلى سنار ” و كيف أن الجماعة فسروها تفسيرا سياسيا ليرتاحو فى حين انها قصيدة و كفى .!

الدوش لا يحب الكلام فى إنتاجه الفنى .. فقلت أحسن طريقة أكشف بها عالم أغنية ” بناديها ” انى أمشى لخالد الكد و أرمى ليهو حبة ” مكنات ” .

و فعلا تنحنح أبو الكد و قال لى : ” صاحبنا عمر دا كان بحب ليهو بنت فى معهد الكليات التكنولوجية . وكان حب دفعنا فيهو نحن أصحاب عمر ثمن غالى … فقلت له كيف ؟ فقال لى يا أخى – عمر بعض مرات ينسى حبيبته .. وبعد مرات يجيها لابس سفنجة .. وبعد مرات يصهين و ما يمشى … فنقوم نحن بالواسطة ” يا بت الحلال العترة بتصلح المشى و عمر راجل فنان و شاعر ، فتقبل البنت وساطتنا و تعود إلى عمر الدوش و لكن بمجرد مرور أسبوع أو أسبوعين الا وتنفجر المشكلة من جديد ”

 

على أى حال تخرجت هذه الشابة وذهبت للأبيض واشتغلت فى أحد البنوك و بقى الدوش بالخرطوم . وذات يوم كان الدوش و كمبال يجلسان فى “الجى بى ” يشربان ” الإسبرايت ” وفجأة تذكر الدوش حبيبته وأقترح على كمبال أن يركبا توا قطار الأبيض لزيارتها والسؤال عنها . وبالفعل حملا معهما صندوق ” إسبرايت ” و ركبت القطار . وبعد أربع وعشرين ساعة كانا بالأبيض . فذهب كمبال الى البنت وقال لها جئنا الآن من الخرطوم أنا و عمر الدوش ولذا نريد منك ردا واضحا وصريحا هل تحبين عمر الدوش أم لا ؟ فقالت لا أحبه … فهذا شاعر و فنان حيأكلنى فن ولا شعر . فأسقط فى يديهما وعادا بذات القطار الى الخرطوم . وبعد شهر سمعنا بأن البنت قد تزوجت وأن زواجها سيكون بالخرطوم بحرى ..فأنسرب خلسة عمر الدوش و ذهب إلى مكان الإحتفال و أتكأ على الأرض و بدأ يكتب أغنية ” يناديها و بعزم كل زول يرتاح على ضحكة عيون فيها ”

فحملت هذا السر وواجهت به عمر الدوش فضحك ضحكته الشهيرة تلك و قال لى برضو أغنية ” الحزن القديم ” فى الشافعة بتاعت بناديها ، وذلك لأننى عندما افترقت عن من كانت معى قلت لها :

” لا الحزن القديم إنت

ولا لون الفرح إنت

ولا الدرب المشيت بيهو غلبنى أقيف .

: القراءة المتانيةلشخصية وشعر الاستاذ عمر الدوش ربما تكشف عن اتجاه عرفاني وجداني.وهي سمة في اسرة الدوش..ولم يكن لعمر الدوش ثمة اتجاه سياسي او ايدلوجي (وذلك هو حق المتلقي على المبدع)..ويتبين ذلك في لقاء التلفزيوني ..وما اشيع عن انتماءه ربما يرجع للطرفين اليساري واليميني في ذلك الزمان الذين كانوا يتنافسون على احتواء او قل توريط اهل الابداع ..ولقد كنت التقى عمر الدوش عند صديقنا التيجاني سعيد مبدع قصيدة (قلت ارحل)التي كانت منصة انطلاق وردي في مرحلته الجديدة والتي تتابعت بعدها (بناديها )و (الحزن القديم.).عليك الرحمة من عند المولى البديع يا عمر الدوش بكل ما غرست في وجداننا وعقولنا من ابداع القصيد وقبل ذلك ما سكبت في اذاننا من عذب التطريب بحلو الكلام المموسق نغما.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى