
“نَدْمَانُ أنا أبداً، وحاتك عُمري ما شِلْتُ الندم”…
هنا يُرسل “أبو السيّد” جواباً مُتعالياً للحبيبة “المُفارِقة”، المُتسائلة تساؤلاً ينطوي على يقينها بأنها حفرت عميقاً في وجدان “المُفٰارق”،
لكنه حين يُجيبها بـ”عُمري ما شِلت الندم” بدلاً من “ما شُفت الندم”، يترك شاعرُنا “صلاح حاج سعيد” مواربةً ذكيّة، دون إقرارٍ منه بالندم؛
الندم الذي تُشي به كلّ كلمات “*الحُزن النبيل”،* وهي عندي جوهرةُ تاجِ الأغنيةِ العربيةِ المعاصرة، وقد دَوْزَنها الألْمَعيُّ الموصلِيّ لحناً عبقرياً،
أسكنَه الكمنجاتِ الشجيّة، مُترفّعاً عن مهابشة النحاسيّات وإيقاعاتِ الترقيص والحماسة، إلا لضروراتِ تنغيمِ نوادر.
أمّا عني، فحين يتعلّق الأمر بعشيقاتي الهواجر — وهنّ كُثُر — فإنّي أُرسلُها بلا مواربة، وأقول:
عمري “ما شُفت الندم”، بل أقول، وبلا تواضع: *”ما هجرتني إلّا نادمةً”.*
فجُلُّهُنّ — بلا استثناء — طرقن باب العودةِ الذي خلعته “فيهِنَّ” باكراً، وابتنيتُ مقامَه جداراً أملسَ.
وما ندمتُ قطّ إلّا على ثلاث:
*كتابٍ استعارته ونسَيةٌ جميلة، لها صِيتٌ في التحليل السياسي الإذاعي، في *هنا امدرمان* ولم تُرجعه، فصيّرتني مغفّلاً،
على حدّ عبارة القائل: ” مُغفّلان مُعيرُ كتابٍ ومرجعُه”، وهي تحويرٌ سودانيٌّ أديبٌ لمقولةِ التراث: “مُغفّلان: مُعيرُ كتابٍ ومُصدِّقُ امرأة”.
والأولى — المنحولة على *عبد الخالق محجوب* — عندي غيرُ صائبة، إن حفرتَ فيها قليلاً،
أمّا التراثيةُ ففيها نَظَر.
وندامتي هنا على حواشٍ وملاحظاتٍ ونُقودٍ وأفكارٍ سطّرتُها تعليقاً على ما كتبه “إريك فروم” في كتابه:
“*رسالة سيجموند فرويد: تحليل لشخصيته وتأثيره*”، وما غادرتُ صفحةً في سفرِه الماتع هذا إلّا وشخبطتُ فيها وخربشتُ —
خربشاتٍ نادراً ما تأتي دَفَقاً رَوِيّاً كما سطّرتُها يومَها وأنا في حالٍ رؤيويٍّ.
لاحقاً توفّرتُ على الكتاب من أحد معارض الخرطوم للكتاب، في دورةٍ تعيسةٍ مُنعت فيها دورُ عرضٍ بعينها كنّا ننتظر باقاتِها بحماسةٍ لهوفٍ
— قطع الله طاري “حُرّاسِ الدين” —
ولكن أين خربشاتي؟ النصُّ الموازي الذي أبدعتُ؟ لقد ذهب عن ذاكرتي، ولن يعود.
وأّنسيتُه تمامًا — كما زعم بعضُ الصحابة في آيٍ من القرآن، وهو زعمٌ يطعن في مصدر النصّ من حيث لا يدرون —
قاتلَ الله مرّةً أُخرى حُرّاسَ الدين.
*والندامةُ الثانية*: حين استجبتُ لرجاءٍ ذليلٍ من شاعرٍ غنائيٍّ موهوب حتى أُعيرَه طبعةً نادرةً فخيمةً من كتاب *”الوافي في العَروض والقوافي”* للخليل بن أحمد الفراهيدي،
عليها خَتْمُ أستاذِنا الرشيد التجاني الغُبشَاوي، عضوِ *اللجنة المركزية السابق للحزب الشيوعي السوداني*،
_ والدِ صديقي المثقّف الرفيع حسن_
الغُبشاوي الذي خَتَم حياتَه صوفيّاً مُتبتّلاً على ميراث آبائه الغُبُش “أبانَ مَسُوحاً مَى”،
وقد أهدى مكتبتَه الغنيّة *لجامعة وادي النيل*.
*أمّا الندامةُ الثالثة*، فهي انقطاعي لشهرين ونَيِّفٍ عن مجالسةِ الضحوكِ الأديب *محمد يوسف الدينكاوي*،
ذلك الأمدرمانيّ، موسوعةُ حكاياتِ الأغاني، وطَقاطيق، ومطارقِ الدُّوباي، والحكّامات؛
فقد رحل عني أبدا وهو في طوافٍ على بيوتِ التصوف، يجمع مادةً لطبقاتٍ جديدةٍ في صوفيّةِ أهلِ السودان…
آهٍ، يا صديقي،
اختارتك أنتَ صُحبَتي،
لكنّك مضيتَ عنها،
تركتَها لحُزنِها
وسُقمِها اليتيمِ
تركتَها…
واللحنُ بين الترجيعِ والدندنةِ.
آهٍ، يا صديقي
أَوَيَنْطَفئُ الطريقُ
هكذا…؟
يتيمةٌ هيَ المسامعُ،
إذْ لم تُولَدِ الأُغنيةُ…