
هل يموت الكاتب عندما يتوقف عن الكتابة
قراءة في تجربتي ميلان كونديرا وماريو بارغاس يوسا
منذ البدء، كانت الكتابة لدى كثير من الكتّاب فعل حياة لا يضاهيه شيء. يكتب الكاتب لا ليُقرأ فقط، بل ليواصل العيش، ليقاوم العدم، وليمنح نفسه معنى في عالم تتآكله الأسئلة. لكن، ماذا يحدث حين يصمت الكاتب؟ هل يعني ذلك موته الرمزي؟ أم أن الصمت هو ذروة النضج؟ بين هذين الموقفين نتوقف عند تجربتين أدبيتين متناقضتين: ميلان كونديرا وماريو بارغاس يوسا.
كونديرا… حين يكون الصمت موقفًا فلسفيًا
في السنوات الأخيرة من حياته، انسحب ميلان كونديرا من المشهد الأدبي بهدوء. توقّف عن الكتابة، ليس عجزًا أو كسلاً، بل لأنّه، كما قال في أحد تصريحاته النادرة:
«على الكاتب أن يتوقف حين يشعر أن ليس لديه ما يضيفه».
لم يكن ذلك موقفًا عابرًا، بل امتدادًا لرؤية كونديرا الوجودية. ففي كتابه فن الرواية، كان دائم التأمل في طبيعة الإبداع وحدوده. صمته كان شكلاً آخر من أشكال الحضور، حضور الكاتب الذي قال كل ما أراد قوله، وترك للباقين مهمة إعادة الاكتشاف والتأويل.
كونديرا، الذي اعتبر الرواية “أرض اللايقين”، اختار أن يغادر المشهد دون ضجيج، مؤمنًا أن الأثر أهم من الاستمرار، وأن الكاتب الحقيقي هو من يعرف متى يتوقف.
يوسّا… الكتابة كاستمرار للحياة
على النقيض، يتمسّك ماريو بارغاس يوسا بالكتابة كأنها الأوكسجين الأخير. لم تمنعه الشيخوخة، ولا السياسة، ولا الحصاد الأدبي الوافر من مواصلة الكتابة. في مذكراته كتب:
«أكتب لأن الحياة لا تكفيني، ولأن الكلمات تتيح لي أن أعيش أكثر من حياة».
وهو في رأي كثيرين، يجسّد الكاتب الذي لا يتقاعد، لأن الكتابة عنده ليست مهنة بل مصير.
في مقال شهير له بعنوان لماذا نكتب الروايات؟ يقول:
«الرواية كذبة تقول الحقيقة. إنها الوسيلة التي تجعل من الحياة أكثر احتمالًا».
إنه يكتب ليقاوم الموت، لا لينتصر عليه، بل ليؤجله قدر المستطاع. بالنسبة له، توقف الكاتب عن الكتابة يعني توقفه عن الفعل الأسمى الذي يجعل العالم مفهوماً ومحتملًا.
بين الصمت والكتابة… صورة الكاتب الحقيقية
في ضوء هذين النموذجين، يبدو أن السؤال لا يطلب إجابة بقدر ما يستدعي التأمل:
هل الكاتب حيٌّ ما دام يكتب؟
هل من حقه أن يصمت؟
وهل الصمت هو شكل من أشكال الإبداع؟
كونديرا يجيب بأن الكمال أحيانًا يقتضي الانسحاب، ويوسّا يرى في الاستمرار نوعًا من الوفاء للذات والقراء. وما بين الرؤيتين، تظل الكتابة حقلًا مفتوحًا للأسئلة، لا للحقائق.
خاتمة: الموت ليس صمتًا، بل خفوت المعنى
الكاتب لا يموت حين يتوقف عن الكتابة، بل حين تتوقّف كتاباته عن إثارة الأسئلة. وبعض الكتّاب، مثل كونديرا، يختار أن يظل حيًا في أثره، لا في إنتاجه، بينما يوسّا يكتب وكأن الحبر مقاومة يومية ضد الموت.
ربما لا توجد إجابة حاسمة، لكن ما نعرفه هو أن الكتابة كانت، وستظل، إحدى أكثر طرق البشر شغفًا في قول: “أنا هنا. أنا حيّ، حتى لو صمتُّ”.