ثقافة وأدب

د. اسراء الريس: في ذكرى وداع بول أوستر (١٩٤٧-٢٠٢٤)

سودان ستار

 

“كان منعزلاً، إنما ليس بمعنى أن يكون وحيدًا، بل العزلة بمعنى الانكفاء، بمعنى أن لا يضطر إلى رؤية نفسه بعيون الآخرين.”

 

في مثل هذه الأيام، منذ عام، غاب عنا بول أوستر، الكاتب الأميركي الذي رسم لنفسه مكانة فريدة في الأدب العالمي عبر مزج ذكي بين السرد البوليسي والتأملات الفلسفية، بين العبث والصدفة، وبين الهوية واللغة. لم يكن أوستر مجرد روائي؛ بل كان يبني من المتاهة عالمًا، ويعيد ترتيب الفوضى بأبجدية خاصة. في الذكرى الأولى لرحيله، يبدو حضوره الأدبي أكثر رسوخًا، لا سيما في ترجماته العربية التي قرّبت صوته الفريد إلى قرّاء وجدوا فيه ما يتجاوز الحكاية إلى الحيرة والدهشة.

في “ثلاثية نيويورك”، التي ترجمها بسام حجار، تبرز عبقرية أوستر في استكشاف ثيمات الهوية والضياع عبر قصص تتقاطع في الشكل والمضمون، لكنها تظل مستقلة في جوهرها، وكأنها مرايا متعددة تعكس صورة واحدة باهتة للبطل الممزق. كتب أوستر: “كل ما أفعله هو أنني أراقب كيف تنهار الحياة إلى قطع، ثم أحاول أن أعيد ترتيبها من جديد.” يتكرر هذا الانشغال بالاحتمالات والنسخ المتعددة للذات في روايته “كتاب الأوهام”، حيث يختفي البطل في خضم حزنه ليكتشف هوية أخرى في عالم السينما والكتابة، وكأن الحزن باب نحو واقع أكثر التباسًا.

الكتابة، في عالم بول أوستر، ليست ترفًا أو مهنة، بل قدر لا فكاك منه، ملاذ في وجه العدم. معظم شخصياته كُتاب، أو غرباء يبحثون عن كلمات تعيد لهم اتزانهم الداخلي، وكأن اللغة آخر ما تبقى من معنى في عالم يتداعى. قال أوستر في أحد حواراته: “الرواية، في جوهرها، محاولة يائسة لفهم الحياة.” ولعله كان يكتب بدافع من هذا اليأس النبيل، ومن إيمان بأن الكلمات، مهما كانت عاجزة، هي الشكل الوحيد الممكن لمقاومة الفراغ.

أعماله المترجمة إلى العربية، بجهود مترجمين كبار مثل بسّام حجار وصالح علماني، لقيت صدى خاصًا في أوساط القرّاء الذين وجدوا في أوستر ما يشبههم: عزلة، حزن، وحيرة وجودية مغلفة بحبكات غامضة وشخصيات لا تبحث عن خلاص بقدر ما تبحث عن تفسير. كتبه تسكن في تلك المنطقة الضبابية بين الحقيقة والخيال، حيث لا شيء مؤكد، وكل شيء محتمل. في الذكرى الأولى لرحيله، لا نرثيه بقدر ما نقرأه من جديد، نحييه في اللغة، نستدعيه في سؤال عالق، في جملة ناقصة، في شخصية تمشي في شارع معتم لا تعرف نهايته. بول أوستر لم يمت، بل تحوّل، كما أراد دومًا، إلى شخصية في كتاب، تظهر وتختفي، تكتب وتُكتب، تهرب من المعنى لتصنع معناها الخاص. قال مرة: “كل إنسان يكتب كتاب حياته، حتى لو لم يمسك قلمًا.” وقد كتب أوستر حياته، وترك لنا ما يكفي لنكتب نحن أيضًا بعضًا من أنفسنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى