
لا مجد لبنادق تشرب من دمنا؟!
يبدو أن الجنرال برهان قد بات لايري من هذه الدنيا علي سعتها الكبيرة، سوي ما يتيحه له ثقب صغير برأس بندقية، يقيس من خلاله المسافة بين حضوره الباهت، وبين غيابه المحتمل.
فالبرهان كان جنرالا مغمورا بدأ مغامرته الكبري، يوم أن فاجأ الجنرال عوض بن عوف، الذي نصَّبَته اللجنة الأمنية للنظام الإخواني المخاتل، رئيسا علي مجلسها العسكري، في إبريل من العام (2019) بإذاعة بيان بثّه التلفزيون الرسمي قال فيه: “أعلن أنا رئيس المجلس العسكري الإنتقالي التنازل عن هذا المنصب، وإختيار من أثق في خبرته، وكفاءته، وجدارته، لهذا المنصب، وأنا على ثقة بأنّه سيصل بالسفينة التي أبحرت إلى برّ الأمان، وبناءً عليه فقد اخترت بعد التفاكر، والتشاور، والتمحيص، الأخ الكريم الفريق أول عبد الفتاح البرهان عبد الرحمن رئيساً للمجلس العسكري الانتقالي خلفاً لي”.
علي أية حال، فأن خبرة البرهان، وكفاءته، وجدارته، قد هدته اليوم الي أن لا مجد في السودان إلا للبندقية، وان بر الأمان الذي أراد “أبن عوف” أن يوصلنا اليه “برهان”، هو بالضبط بر هذه الحرب المرعبة، هذه الحرب التي حصدت الي يومنا هذا نحو (150) ألفا من أرواح أهل السودان البريئة، فضلا عن أنها قد شردت ما يقارب ثلث سكانه بين المدائن والمنافي، ناهيك عن ويلاتها، ومآسيها، وإنتهاكاتها الأخري، التي لا تحصي ولا تعد.
فالبندقية آلة عجفاء صنعها الإنسان كي تشرب من دمه، من شأنها فقط، أن تحنِّط العقول، وأن تُحاصر القلوب، وأن تُجفِّف المشاعر، لتحيل حاملها في مُتلازمة غريبة إلى كائن مُتوحِّش مُتعطِّش للدماء، لا مجد له في الأرض، ومن باب أولي، لا في السماء.
المهم، فقد قلت من قبل أني لا أعرف جنرالا حشر نفسه، في جحر أضيق من خرم إبرة، كما فعل هذا الجنرال المغامر “عبدالفتاح البرهان”.
هو جحر مليء في الحقيقة علي ضيقه، بشتي أنواع الهوام، والأفاعي، والعقارب.
إذ كلما إستدار الرجل يمنة فح بوجهه ثعبان عربيد، او تطلع يسارا رأي شوكة عقرب نافرة، أو نظر الي أعلاه وجد مخلب نسر جارح يكاد يتخطفه، أو الي أدناه حيث “الحية الرقطاء” التي يعرفها وتعرفه، كجوع بطنها التي صارت بزوال ملكها خاوية”.
وهكذا أيضا فحين يتوهم رمز مسلح كهذا، أنه بلا قيمة من غير سلاح، تصبح حياته بحد ذاتها، جحيما يمتد بخطره لمن حوله، ومن هم في محيطه.
إذ أن متلازمة “المسلح والسلاح”، تحدث أثرا غريبا، يجعل من هذا السلاح أوكسجين المسلح، الذي بوجوده يحيا، ولفقده يموت، ولو أنه حازه، ظن كأنما قد حاز المجد من أطرافه، أو الدنيا بحذافيرها.
فعبر عين واحده تحدق من ثقب بندقية، يقيس هؤلاء الجنود في العادة المسافة بين وجودهم وبين العدم.
ولهذا تجدهم دائما كلما رأوا حلما جميلا يراود شعوبهم، عادوا، ليلقنوا الببغاء شعر الحرب.
إن حربنا هذه، حرب تخلق، علي طريقها ديكتاور قد شب هو عن الطوق الآن، ليعلن بشعار “المجد للبندقية” عن نهاية مرحلة، وبداية أخري، أو هكذا يجب أن نفهم، قبل أن تنكسر هذه البلاد علي أصابعنا كفخار.
بمثلما يجب أن نفهم أيضا أن لحقيقة هذه الحرب وجهان، وجه يقابلنا بوجهه الكالح، ووجه من ورائه وجه، هو في الحقيقة ليس وجها، بل قناع.
هو قناع ربما أراد البرهان اليوم إزاحته، عقب عودته مباشرة من زيارة لمصر، ليكشف عن وجه عدائه الصريح لثورة ديسمبر ولثوارها، هذا الوجه الذي دأب الجنرال علي إخفائه بحرص شديد، منذ أن صعد الي الحكم بقرار من لجنة “الإخوان المسلمين” الأمنية، قائلا لأول مرة بالحرف: “مافي مجد للساتك تاني، المجد للبندقية دي بس”.
لنقول ما قال شاعرنا الفيتوري:
“قد مر طاغية من هنا
ذات ليل
أتى فوق دبابة
وتسلق مجداً
وحاصر شعباً
غاص في جسمه
ثم هام بعيداً
ونصب من نفسه للفجيعة رباً”.
فإن من نصب نفسه اليوم للفجيعة ربا، قد وضعنا بذلك بين خيارين لا ثالث لهما، “إما أن نكون أو لا نكون”، فقد وضع المؤرخ ابن خلدون وصفة لاذعة للتعامل مع ضيق مثل هذه الخيارات، قائلا:
“لو خيَّروني بين زوال الطغاة أو زوال العبيد، لاخترتُ بلا تردد زوال العبيد، لأن العبيد يصنعون الطواغيت، ولا يبنون الأوطان”.
لكن ليت طاغيتنا الجديد يفهم معني ما قال الشاعر محمد الماغوط: “إن الطغاة كالأرقام القياسية، لابد أن يأتي يوما وتتحطم”.
وله إن شاء عبرة، لو أن الطغاة أصلا يعتبرون، في يوم الثلاثين من يونيو الذي أعقب مجزرة القيادة العامة الدامية، وهو يوم لولا آفة النسيان، ليس بالطبع بعيد.