ميرغني أبشر يكتب: العودة الى كوش: قراءة مروية في منشأ الكعبة المكية وأصول قريش “النباتية”!!
سودان ستار

العودة الى كوش: قراءة مروية في منشأ الكعبة المكية وأصول قريش “النباتية”!!
مايشبه المقدمة:
صديقي/تي القارئ ليس من اليسير الربط بين إله قديم من مروي يُصوَّر بأسد ذهبي على عرش من ثعبان، وبين مركز العبادة وقبلة إلاسلام — الكعبة المشرفة. غير أن المقاربات اللغوية، والدلالات الرمزية، والمصادر الأثرية، تقودنا بتؤدة إلى فرضية يمكن أن تكتب هكذا: أن أبادماك، إله مروي الأعلى، كان يُجسِّد مركزاً كونيا يُعاد إنتاجه لاحقاً في شعائر مكة قبل الإسلام مترحلاً مع هجرات الخروج الأولى من النيل ولا يقدح ذلك في أصول التوحيد.
يتناسب هكذا فرض عقلاً مع نتائج البحوث العلمية المتأخرة والتي أنتهت لخروج الإنسان الأول من السودان، وبالطبع تاريخياً وتأسيساً على مرويات التراث يمكننا القول بأن الكعبة أسبق في البناء من ظهور أبادماك في الحضارة المروية ولكن آثارياً لا يمكننا الجزم بذلك .
أبادماك: في النقوش المروية يظهر بأسد ثلاثي الرؤوس، حاملاً قوساً وسنابل، جالساً على ثعبان مجنّح. هذا التكوين البصري–الميثولوجي يُعبّر عن جمعٍ بين: السلطة، الخصوبة، الزمن، والخلود. يفسّر( Rilly 2012) هذا المشهد على أنه تمثيل للإله الأعلى في المروية، الجامع بين قوى الحياة والدم. والأسد، في المخيال الكوشي، لم يكن رمز القوة العنيفة فحسب، بل هو صورة للشمس (مُحيونة)، المركز، والدوام . كما أن جلوس الإله على الثعبان يشير إلى سيطرة على الزمن والدورة الكونية، وهي رمزية تتكرّر لاحقاً في الشعائر الدينية المكية.
يروي بعض التراث الإسلامي أن الكعبة حين بُنيت، كان هناك ثعبانٌ مقرّبٌ هو من دلّ إبراهيم على قواعد البيت القديم. هذه الرواية تُقابلها صورة أبادماك الجالس فوق ثعبان مجنّح — كأنه يكشف عن “قواعد المركز”، سواء كان معبداً أو بيتاً سماوياً. مما يفتح الباب أمام تأويل مشترك للرمز بين المروي القديم والمكي المتاخر فرضاً، وفقا للنص القرآني الذي يحدثنا أن أول بيت وضع للناس هو الذي ببكة، فرغم غياب مطابق صريح لكلمة “بكة” في النقوش المروية، إلا أن الجذر الصوتي المقارب لها نجده في مفردة (maka / mak) وتعني: “الإله” أو “المكان المقدس” في المروية، وترد كثيرًا في السياقات اللاهوتية. وهي تقابل “مكة” من حيث الجذر الصوتي والدلالة المركزية.
*من كوش إلى قريش: الجذر والجوهر*
تُعد المقاربة بين كوش وقريش أقرب وأعمق من نظيرتها مع “كور” المروية. فـ”كوش”، بوصفها بيئة زراعية ملتفة بالنخيل والحياة، تحمل دلالة خصوبة ومركزية، تتقاطع مع معنى “قريش” كمجتمع ارتبط بالتجارة والقداسة. فمن الناحية الصوتية، نلحظ تقارباً لافتاً بين “كوش” (Kush) و”قريش” (Quraysh)، حيث تنتهي الكلمتان بصوت شبيه (ش/ش)، وتبدأان بصوتٍ حلقي (ك/ق) قد يتبدل حسب اللهجات القديمة. هذا التوازي يدعم فرضية أن “قريش” قد تكون تحويراً لغوياً محلياً لاسم “كوش”.
وقد ورد في الأثر المنسوب إلى الإمام علي بن أبي طالب قوله: “أنا من قريش وقريش من كوش”، وهو قول وإن اختلفت طرقه، إلا أنه يشير إلى استبطان هذه العلاقة العرقية–الحضارية في الوعي العربي المبكر.
بذلك تكون قريش امتداداً للذاكرة الكوشية، لا قطيعة معها. وتتحوّل مكة من ثقافة صحراوية صخرية جرداء، إلى صدى بعيد لصوت النيل.
*كوش و”خُشّة”: الأسم الحامي النابت من الأرض*
في شمال السودان، يُطلق على تجمعات النخيل الصغيرة الكثيفة المتشابكة الاوراق (الجريد) “خُشّة”. والمثير أن كلمة “كوش” قد تعني أصلاً — حسب قراءات بيئية ولغوية — الأرض المحاطة بالنخيل، أو الوادي المكتنز بالحياة. إذ نجد في المرجع الأساس لريلي ودي فوغت:” تم التحقق من أن كلمة Kush/Qes في اللغة المروية تنطق qusa أو kwəºa، ، ثم تُرجمت في اليونانية Χους (Kous).”
لكن الأهم من “دا كلّو”: الباحثون رجّحوا أن معنى Kush يعود إلى وصف نباتي أو بيئي أصيل، وهذا يدعم ربطها بمفردات مثل “خُشّة” – أي الأشجار النخلية الكثيفة الملتفة – كما في عامية اهلنا فى نهر النيل وشمال السودان.
هذا يجعل من كلمة “كوش” ليست اسماً سياسياً فقط، بل توصيفاً حيّاً للطبيعة التي تحتضن الإنسان.
*مايشبه الخاتمة:*
إذا جمعنا بين الأسد (الشمس)، والثعبان (الحكمة، الزمن)، و”مك” (المركز)، و”كوش” (النخل/الأرض)، ثم أسقطناها على فكرة البيت المقدّس في مكة، فإننا لسنا أمام استعارة، بل أمام استمرارية كونية–ثقافية.
أبادماك، كما تُظهره النقوش، ليس فقط إله مروي بل هو (المكي الابدي)، إنه نقطة تقاطع رمزية كبرى بين الجنوب النيلي والشمال الحجازي — بين معبد مصوّرات ومسار الكعبة.
ومن هنا فإن العودة إلى مروي وكوش هي عودة إلى قلب الفكرة، لا إلى تمني ترفي متوهم طمره كتاب التاريخ .
*المراجع:*
• Rilly, Claude & De Voogt, Alexander. The Meroitic Language and Writing System (2012)
• Rilly, Claude. Recent Research on Meroitic (2007)
• المصادر الإسلامية المتأخرة حول بناء الكعبة (روايات الكلبي، ابن إسحاق)
• المعجم النوبي–العربي، موسى حميدة (1995)