مقالات الرأي

الجميل الفاضل يكتب: ألا تبا، لوجهي الغريب؟!

سودان ستار

“عين على الحقيقة”

ألا تبا، لوجهي الغريب؟!

 

حين تتقلب الأمزجة، تصبح غريبة هي الأطوار.
فمن عمق طور من أشد أطواري غرابة، أحكي لكم اليوم: أننا كنا قد التقينا فجأة، أنا ووجهي الغريب، وجها لوجه التقينا، علي حاجز في مكان قصي، ليس به جنود أو حتي أشباه جنود، هو حاجز ربما نبت علي سطح مرآة أتت من خارج هذا الزمان لتتيح لنا، “أنا وهو”، فرصة هذا اللقاء.
فإستجمعت قواي كلها علي لساني، لأسأل وجهي، رد الله غربته، قبل أن يسألني عنه جنود متطفلون قرب مقبرة.
قلت له: كيف صرت وجها غريبا يا أخ الغربة؟، تدل علي، وعلي جثتي، لتحملني الي حتفي، يأيها الوجه الخائن، الغريب؟.
صحت بأعلي صوتي بوجهه، الذي هو بالطبع وجهي: أغرب عني أيها الوجه الغريب، فأنا لا أطيق في غربتي هذه، غرباء أو جبناء مثلي، فروا من جحيم الحرب.
عموما، فمع كل تبدل في مثل هذه الأحوال، التي شطرتني لنصفين، هما نصفان يتحاوران الآن “بيني وبيني” لتنشأ علاقات طردية، وأخري عكسية، تسبح بي كلها خارج الطقس كما يحلو لها، حرة، أبية، ومستقلة، ترفع راياتها علي هامتي سارية، علي نمط ما يفعل رجالات البرتوكول والمراسم لدي سائر الشعوب الأمم.
لقد أتلفت هذه الحرب أعصابنا، وعكرت أمزجتنا يا أصدقاء، بمثلما أفسدت علي بعض الناس من طبقة الملاك منا، متعتهم بالأشياء كلها، إذ لا بيوتا دافئة في زمهرير الشتاء، أو باردة عند هجير الصيف، يلوذون بها فتأويهم كعادتها بين أضلاعها في حنو، وإذ لا فارهات تربضن علي هذه الفنااءت الآن، ولا أسواق للسابلة أمثالي، أو “سوبر ماركتات”، تعج بلبن الطير، وبكل ما لذ وطاب، تلبي لمجتمعات المخمليين، ما تشتهي أنفسهم.
حيث لا مراتع أنس تروح عن قلوب الكبار منهم، ولا ملاعب لهو تداعب عقول صغارهم.
ولا نوافير تنشر البهجة أمام ناظريهم مع تراقص مياهها بالوان قوس قزح.
لقد تلاشي الحب والفرح هنا كفقاعة، فتنامي البغض والكره، بين الناس أشجارا.
وقد شرد الضحك من الأعماق، لتموت أو قل لتنتحر، كل الكهارب في الشوارع.
لتغرق في برهة صغيرة، كل هذه الشوارع الكبيرة، كلها في الظلام.
ثم لتهرب الكهرباء من أسلاكها تحت جنح هذا الظلام نفسه، قبل أن تجف المياه في أنابيبها، رغم أن النيل كان حاضرا كعادته، فالنيل علي أية حال، لا يلام.
لا يلام، من أن لا مياه في صنابير المياه، وبالطبع لا يلام أيضا، في أن لا كهرباء تحملها الآن أسلاك الكهرباء.
فالأسلاك ذاتها قد تقطعت بها سبل الحياة، فتمردت علي أعمدة ضغطها العالي والمنخفض، قبل أن تنصهر من تلقاء نفسها الي نحاس، ذاب هو في ذمم واسعة، تحول النحاس بين تضاعيف سعاتها المذهلة، الي فرص ذهبية نادرة، والي عملات غير معدنية أخري، إبتلعتها قطط سمان لا زالت ترابط علي البحر، في انتظار رياح تشتهيها سفنهم، لكي تمخر عباب بحر هذه الحرب، الذي هو بحر يظن البعض أنه بحر بلا ساحل، لحرب لا يريد من أوقدوا نارها أن تنتطفيء بين أيديهم دون عائد أو كسب مقدر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى