
عين على الحقيقة
“نيروبي” بلغة قبائل “الماساي”، هي نبع “المياه الباردة”، ونيروبي فضلا عن صفاء وبرودة مياهها، هي مدينة عرفت أيضا ببرودة أعصابها.
بيد أن مذيعة مصرية مشاغبة هي “ضحي زهيري”، عمدت لأن تخوض مغامرة من نوع خاص لصالح قناة “الحدث” السعودية، قادتها أقدامها للتوغل بين أدغال كينيا، التي وضعتها أمام أشرس أفيال “الهامش السوداني” شديدة البأس، إذ كلما غمست “ضحي” أناملها الرقيقة في نبع نيروبي البارد، لكي تعكر شيئا من صفو مياه هذا الغدير، بما يسهل عليها مهمة صيد هذا النوع من الأفيال المتمردة التي إنتدبت للإيقاع بها، عاجلها فيل متحفز بصفعة رادعة من خرطومه الخشن، علي خدها الأسيل ليزداد هو إحمرارا، فتقطب جبينها تارة، وتعقد الدهشة حاجبيها تارة آخري، أو لينقطع استرسالها بسلاسة كعادتها، فتسكت أحيانا واجمة، حتي عن الكلام المباح.
علي أية حال، ورغم إعجابي بفصاحة لغة جسد “ضحي” المعبر عن حاله، يبدو لي أن فريق الأعداد كان قد إستسهل لها مهمة أن تضع ما تشاء وما تريد، من إدانات جاهزة علي أفواه متمردة عصية كهذه، هي أفواه أدمنت التمرد علي كل شيء، قد جبلت علي قول “لا” حتي بوجوه كبار الكبار، كما أومأ لها بفخر “عبدالواحد نور”، الذي كادت أن تقول له “ضحي” في رحلة بحثها وتنقيبها المضني عن علاقات وراوبط تضعه في سلة “الدعم السريع”، أضبط لقد وجدتها، فأنك أيضا “متعاون”.
لكن لعل المفاجيء ل”ضحي” ولفريق إعدادها، هو أن كل السرديات الزائفة التي أريد لهذه اللقاءات أن تثبتها بإعترافات لأعداء المركز التقليديين، إعترافات كان من شأنها أن تدق بالضرورة أسافين بينهم، كما أراد من دبر وأعد.
قد تبددت هي كلها كفقاعات الهواء علي قارعة طريق هذه الحوارات المفخخة بما يكفي من حيل وأحابيل لإيقاع أمثال هؤلاء الرجال ذوي السحنات و”الوجوه الغريبة” هم أنفسهم، وفق تصنيفات ومعايير وقوانين الضلالات المركزية المعشعشة علي الأذهان هذه الأيام.
المهم فقد تساقطت بلا أدني شك كل روايات وسرديات الحرب التي إنبنت عليها سيناريوهات هذه الحوارات الملغومة، كتساقط أوراق الخريف.
رغم أن “ضحي” بحد ذاتها قد أبلت بلاءا حسنا، وحاولت بشتي السبل إستنزاف ضيوفها نفسيا بحشرهم في أظفار قبائلهم، لإستدرار عطفهم الطبيعي، أو لإبتزازهم ربما الي أقصي ما يمكن بوضعهم علي مظان الحرج أمام مكوناتهم الاجتماعية التي تكابد هي عذابات الحرب وويلاتها.
وللحقيقة يبدو أن فريق اعداد “الحدث” قد برع في إتباع نهج توريطي متقن لهؤلاء الضيوف، من خلال طرحه نوع أسئلة ايحائية تجريمية الطابع، تشف عن النوايا التي وراءها.
فضلا عن أنه قد زود محاورته في إطار الواجب المهني بالطبع، بخارطة دقيقة وخلفيات جيدة، مكنتها من اللعب علي أوتار التباينات الإثنية، والقبلية، والمناطقية، القائمة بطبيعة الحال بين شركاء هذا التحالف ومن شايعهم أو قاربهم.
غير أنه بالنتيجة، فقد فوت غالب الذين خضعوا أمام “ضحي” لهذا الإختبار الصعب، فرص السقوط في فخ التعاطف الأعمي، أو فخ التحامل غير المبرر في النهاية.