
انتهينا في الجُزء الثاني من هذا المقال، وباختصار، إلى أمرَين: أولهما: أن قيام مصانع القَوَالِب الخشبيَّة والنَّبيذ والفخَّار بتعديل توليفاتهم الإنتاجيَّة (قيمة/ زمن) إنما يجري بفعل قانون القيمة الاجتماعيَّة النسبيَّة، وليس نتيجة مُكافأة انتظار مُفترَضة كما تصور ريكاردو. أو بفعل ميل مُعدَّلات الربح إلى التَّساوي كما ظن ماركس. ثانيهما: أن التعديل في التَّوليفات باستخدام تقنياتٍ جديدة؛ للحصول على 50 (قيمة/ زمن)، بأقل ثمن إنتاج (3000 س. ح. ض)، وبأقل زمن إنتاج (15 يومًا) سوف يؤدّي إلى انخفاضٍ عام في القيم الاجتماعيَّة النسبيَّة على الصعيد الاجتماعي، وهو ما سوف ينعكس بوجهٍ عام على القيم التبادُليَّة لجميع السلع. ومع انخفاض القيم التبادُليَّة للسلع تأخذ الأثمان في الارتفاع. أي الانتقال من حقل خلق القيمة إلى موجات إنتاج الأزمة.
ولسوف نناقش في الجزء الثَّالث من مقالنا طبيعة التَّناقض بين ظاهرَتي القيمة والثمن؛ والَّذي بموجبه تنخفض قيم السلع وفي نفس الوقت ترتفع أثمانها في إطار الصراع المَحْمُوم على امتلاك الجديد في حقل التقنيَّة، وبالتَّالي هيمنة الآلة؛ بقصد الحصول على أقل (قيمة/ زمن)، بعبارة أدق: أقل ثمن إنتاج في أقل زمن إنتاج. أمَّا في هذا المقال، ولأن فرضيَّة ماركس بشأن قدرة ميل مُعدَّلات الربح للتَّساوي على تَفْسِير دور الزمن في تكوين القيمة تضرب بجذورها في عُمق الاقتصاد السِّياسيّ؛ فبقصد البرهنة على عدم صحتها سوف نناقش دور القيمة الاجتماعيَّة النسبيَّة في تعديل التَّوليفة الإنتاجيَّة (قيمة/ زمن) ابتداءً من تحليل مكونات ثمن الإنتاج نفسه، حيث أغفلنا ذلك في الجزء الأوَّل من المقال وافترضنا فحسب أن قيمته (ككل) 12000 وحدة، دون أن نفحص قدر كل مكون من مكوناته بصفة خاصة: العمل المختَزن، والعمل الزَّائد. أي دون فحص للرأسمال الهاجع (وسائل الإنتاج)، والربح (العمل الزَّائد).
فلنفترض الآن، وفقًا لمثلنا التقليديّ، أن ثمن الإنتاج عند صاحب القَوَالِب الخشبيَّة البالغ 12000 (س. ح. ض) يتكون من 3000 وسائل إنتاج، وسنرمز لها بـ (و. إ)، و9000 عمل زائد، وهو الربح، وسنرمز له بـ (ر). ولنفترض كذلك أن ثمن الإنتاج عند صاحب النَّبيذ البَالغ أيضًا 12000 (س. ح. ض) يتكون من 9000 (و. إ)، و3000 (ر). أما ثمن الإنتاج عند صاحب الفخَّار البَالغ أيضًا 12000 (س. ح. ض) فلنفترض أنه يتكون من 11000 (و. إ)، و1000 (ر).
فوفقًا لفرضيَّة ماركس يتعين الآن، عكس مذهبه قبل تحليلنا مكونات ثمن الإنتاج، أن يتحول صانع النَّبِيذ، ومعه صاحب الفخَّار إلى حقل إنتاج القَوَالِب الخشبيَّة، حيث يحصل الأخير على أعلى ربح ممكن وقدره 9000 وحدة، وسيظل يجني أعلى ربح حتَّى لو قام رأسمال صانع الفخَّار بأربع دَوْرات مُقابل دورة واحدة لرأسمال صانع القوالب الخشبيَّة؛ فلو قام رأسمال الأول بأربع دَوْرات فسوف يجني 4000 وحدة فحسب في 240 يومًا.
وكذا الأمر بصدد صانع النَّبيذ؛ فدورتان لرأسماله لا يدرَّان عليه سوى 6000 وحدة في 240 يومًا. رساميل فرع النبيذ إذًا، وكذلك رساميل فرع الفخَّار، وعلى الرغم من الشك الَّذي يحيط بالأمر، سوف تتجه، وفقًا لمذهب ماركس، إلى فرع إنتاج القوالب الخشبيَّة. واندفاع الرساميل على هذا النحو صوب حقل إنتاج القوالب الخشبيَّة سيكون نتيجة ميل مُعدَّلات الربح للتَّساوي أي بالتمام والكمال كما قال ماركس!
ولكن، يجب هنا، ومباشرة، لا أن نلغي علاقة الزَّمن بقوى الإنتاج الهاجعة دون عمل فحسب إنما وأيضًا يجب أن يجري التحليل، كما فعلنا لتونا، بإسقاط وسائل الإنتاج من الحسابات تمامًا! فقد كانت حساباتنا على النحو التَّالي: 9000/240 في فرع إنتاج القوالب الخشبيَّة، و3000/120 في فرع إنتاج النبيذ، و1000/60 في فرع إنتاج الفخَّار. أي أننا تجاهلنا، مع مذهب ماركس ودون أي سببٍ واضح، قيمة وسائل الإنتاج في كل فرع! وقمنا فقط بحساب نسبة الربح إلى زمن الإنتاج! ومن المعلوم بالضرورة أن الربح لا يمكن أن يتحقق، خلال الزَّمَن، إلا بواسطة قوى الإنتاج؛ وبالتَّالي لا سبيل إلى إهدار وسائل الإنتاج حين حساب الـ (قيمة/ زمن). ولذا، وإن أردنا التعرُّف إلى الدّور الَّذي يؤدّيه الزَّمن في تكوين القيمة، فلا يمكن الركون إلى تلك الثقة الزَّائدة، وغير المبررة عِلميًّا، في قدرة ميل الأرباح للتَّساوي! بل يجب أن يتم الحساب على النحو، الصحيح، التَّالي: 12000/240 في فرع إنتاج القوالب الخشبيَّة، و12000/120 في فرع إنتاج النَّبيذ، و12000/60 في فرع إنتاج الفخَّار.
وبتلك المثابة يكون من الواضح أن قدرة ميل مُعدَّلات الربح للتَّساوي، وابتداءً من غض الطرف عمدًا عن قيمة وسائل الإنتاج الهاجعة كأحد مكونات ثمن الإنتاج، يتوقف دورها عند حدود تفسير إقدام الرساميل وإحجامها بمعزلٍ عن الزَّمن. ومعنى ذلك، وبوضوحٍ أيضًا، أن نظرية ميل مُعدَّلات الربح للتَّساوي لا يمكن أن تؤدّي عملها حين استخدامها للتعرُّف إلى الدّور الَّذي يؤدّيه الزَّمن في تكوين القيمة! قانون القيمة الاجتماعيَّة النسبيَّة فحسب هو القادر على شرح دور الزَّمن في تكوين القيمة على الصعيد الاجتماعيّ. فإذا عُدنا لمثلنا أعلاه، وإعمالًا لقانون القيمة الاجتماعيَّة النسبيَّة الَّذي يعتد بالزمن ولا يُهدر قيمة وسائل الإنتاج الهاجعة؛ فسنجد أن الرساميل، سواء أكانت الرساميل الناشطة في فرع إنتاج القوالب الخشبيَّة، أم فرع إنتاج النَّبيذ، أم فرع إنتاج الفخَّار، لن تُغادر أي فرع إلى آخر، بل سيجري فقط التعديل في التَّوليفات الإنتاجيَّة (قيمة/ زمن) باستخدام التقنيات المتيحة لذلك من أجل الحصول، كما في مثلنا، على 50 (قيمة/ زمن)، بأقل ثمن إنتاج 3000 (س. ح. ض) وبأقل زمن إنتاج (15 يومًا).