كنت اتصفح على فيسبوك كالعادة، عندها صادفت صورة اثارت في نفسي مزيجا من الدهشة والحزن والغضب! وجه نعرفه منذ الطفولة. وجه صاغ وجداننا قبل أن نعرف معنى الفن، وجه حمل ذاكرة الدراما السودانية على كتفيه نصف قرن من الزمان.
في صورة حزينة كانت الملكة بلقيس عوض مصابة على رأسها وتفتقر للرعاية في فندق بدنقلا، مثخنة بالجراح، متعبة الجسد، منكسرة الظل، كأنما تركها السودان كله تمضي نحو عمرها في صمت موجع.
نحن الذين فتحنا أعيننا على ملامحها في سكة الخطر، وابتسمنا لدفئها في الدهباية، وتعلمنا من حروفها العربية الفصحى معنى النطق الجميل، لم نكن نتصور أن يجيء يوم تُرى فيه بلقيس بهذا الضعف، وبهذه الوحدة. بلقيس ذاكرة وطن تمشي على قدمين تسندها جدران فندق بارد في مدينة دنقلا.
لقد كانت بلقيس عوض منذ خمسينيات القرن الماضي نسيجا فريد من الموهبة والانضباط. جمعت بين العلم والفن، بين صوت يحمل العربية وحضور مسرحي يفيض وقار. كانت أول امرأة تتقلد منصب في الجمارك السودانية، ثم رائدة في المسرح والإذاعة والتلفزيون. كانت دوما تقدم ومهتمة بالرسالة فقط لاشيء اخر ولذلك، حين نرى اليوم جسدها المنهك وعينيها الذابلتين في صورة خرجت إلى العلن دون إذنها، نشعر أننا نحن من تلقى الصفعة.
أين الدولة؟ أين الذين ملأوا المنابر حديثا عن الإبداع والثقافة؟
أين الوزارات التي لا تعرف حتى عنوانها اليوم؟
كيف تترك امرأة قدمت وجه السودان الأجمل، تعيش في غربة داخل وطنها؟
كيف يليق ببلقيس أن تكون “نازحة” في بلد صنعته هي بالصوت والصورة .. !؟
أي عار هذا الذي يجعل ملكة الدراما السودانية في هذي الحالة بينما تصدر الشاشات اليوم مشاهد الرقص والابتذال والضجيج الفارغ باسم الفن؟
نحن غاضبون.
غاضبون لأن بلقيس عنوان لمأساة أمة نسيت رموزها الحقيقية.
في بلد تحول فيه المبدعون إلى لاجئين داخل حدودهم، وصار الشرفاء يُكافأون بالنسيان.
في زمنٍ صارت فيه القونات أكثر حضورا من القامات، وصار الضجيج بديلاً عن القيمة، والرقص على أنقاض الوطن أسرع طريق إلى الشهرة.
يا لوجع السودان حين يُهمل أبناءه الكبار!
بلقيس التي علمتنا كيف نُنصت، كيف نحزن، كيف نحلم، أصبحت الآن بحاجة إلى من يسأل عن دوائها.
بلقيس التي كانت تزرع فينا حب اللغة والفن صارت اليوم تواجه المرض والسقوط في غرف مغلقة
أيها الوطن، ألا تخجل؟
كيف تنام حكوماتك، ووزاراتك، ومسؤولوك، بينما امرأة حملت على عاتقها ذاكرة المسرح والإذاعة والتلفزيون، تعيش في وجعٍ كهذا؟
أين أنتم من ضميركم؟ أين أنتم من ذاكرة هذا الشعب؟
تكريم الاستاذة بلقيس عوض يجب ان يكون بكرامة في الحياة.
بلقيس تاريخنا الحي، رمز من رموز وعينا الجمعي، وجزء من ضميرنا الجمالي الذي يتداعى أمام أعيننا ونحن صامتون.
نحن نحزن اليوم لأننا بتنا نعيش في وطن يشيّع مبدعيه أحياء.
وطنٍ يترك من علمنا الحب يسقط.
بلقيس نموذج نرى فيه ما فعلته الحرب والفقر واللامبالاة بروح السودان الجميلة.
اللهم أنت الشافي المعافي، اشفها شفاءً لا يغادر سقماً.
اشفِ جسدها وروحها، وداوِ وجع هذا الوطن الذي تئنُّ فيه الكرامات
واجعلنا يا رب أمة تعرف قدر مبدعيها قبل أن تبكيهم بعد فوات الأوان.