قراءاتمقالات الرأي

د.مجتبى عرمان يكتب: في اقتفاء أثر خراب المدن : ” الطاغوت صعد علي سلم الجوع” 3-3

Mujtabasaeed88@gmail.com

 

 

(1)

جال بخاطري وأنا ادون هذه هذه السلسلة من المقالات عن خراب المدن صورة الطاغية التي حاول الأدباء معالجتها من خلال الأعمال الأدبية التي كُتب لها الخلود لقيمتها الأدبية كاملة الدسم، لأنها نتاج الخيال أولا والواقع ثانية. تذكرت سنوات دراستي في كلية التربية جامعة جوبا حيث تخصصت في اللغة الإنجليزية وادابها. من حظنا إننا نهلنا العلم علي يد علماء واساتذة اجلاء كان جلهم من جنوبنا الحبيب. الإشارة إلى هذا الأمر مهمة لأني موقن بأن ما نعايشه اليوم من تشرد، ودم مسفوح ما يزال على أرصفة الشوراع التي لا تخون ، والناس تتضور جوعا، والبنية التحتية – على تواضعها- تم مسحها من الوجود من قبل رجال يجلبون الدم والدموع أينما دخلوا حيا في الخرطوم أو بلدة على تخوم البلاد. كل هذا الخراب الهائل تعود جذوره إلي سلطة الاستبداد والعسف المتسربلة بالدين. أستاذنا آدم شالون بطوله الفارع واللكنة الأفريقية في تحدث اللغة الإنجليزية يدخل علينا في السنة الثانية في كلية التربية يحمل مجموعة من كتب اللغة الإنجليزية التي تنوء بحملها الجبال الرواسي. علي رغم من إننا الجيل الأخير الذي درس مناهج المربي الجليل محي الدين صابر الذي نراه مخطئا حينما نقل من الفكر التربوي المصري! لكن والحق يقال كانت تجربة السِلم التعليمي 6-3-3 جديرة بالثناء، والنقد والتصويب، ووقتها كان التعليم شبه مجاني قبل أن يتم تسلعيه من قبل سدنة الإسلام السياسي الذي جعل منه سلعة تُباع وتُشتري من قبل الكانزين المال العام من القطط السمان.

(2)

“Look like the innocent flower, but be the serpent under it.” (Macbeth – Act 1,Scene v.)

اتاحت لي دراسة اللغة الإنجليزية وادابها بجامعة جوبا التعرف على أبرز الكتاب في الثقافة الغربية وفي الأدب العالمي، وليام شكسبير الذي عُرف بتمكنه من ناصية النثر والشعر وبالقدرة المذهلة على الغوص في مكنونات النفس البشرية وسبر اغوارها. وإن كان الغموض لا يزال يلف أصالة بعض نصوصه الأدبية. كانت محاضرة الأدب الإنجليزي في غاية التشويق لأنها اتاحت لنا الفرصة في العمل في شكل مجموعات وأيضا الفرصة لتقمص الأدوار المختلفة للشخوص في مسرحية ماكبث التي اعتمدت لحد ما علي شخصية ماكبث المحورية وهو أحد ملوك اسكتلندا. خلاصة السيميات التي تدور حولها المسرحية إذ تتمحور حول شخصية الطاغية، والطموح، والتعطش اللامحدود للسلطة والسيطرة، ونهايته الدموية. كان ماكبث برفقة أحد الجنرالات عائدين بعد الإنتصار الذي تحقق علي أيديهما ضد ملك نرويجي. بينما يعبران أرضا منعزلة ومعشوشبة، رأيا ثلاث نساء ذوات لحي حيث يبدو عليهن الذبول. صاح ماكبث قائلا: ” تحدثن، من تكن؟” اجبن الثلاث ساحرات الواحدة تلو الأخرى : ” سلام يا ماكبث، يا أمير جلاس.” كما قالت الأولى، ولكن جميعهن خاطبنه بكلمة يا أمير….يا من ستكون ملكا! إلا تماثل يا سادتي هذه المحادثة بين ماكبث والساحرات قصص بعض جنرالات زماننا الكلبي هذا حينما أدعي أحد جنرالات الحرب ولورداتها قائلا بأن صدام حسين المجيد – الذي يحتل دور الساحرات هنا – تنبأ له بأنه سوف يصير حاكما علي السودان يوما ما!

ذهب ماكبث إلي زوجته ليدي ماكبث – متعطشا للسلطة كتعطش الصائم إلي الحلو مر في صيف سوداني غائظ- بعد تلك المقابلة المثيرة مع الساحرات ليخبرها بتلك النبوءة قائلا لها: ” دثريني زميلني.” ، حكي ماكبث ما دار بينه وبين الساحرات إلي ليدي ماكبث وجن جنونها وتملكتها شهوة السلطة وطربت إلي حديثه أيما طرب. قال لها سيكون الملك بيننا غدا للتهئنة على هذا الانتصار. طارت فرحا بسماع هذا الخبر وباتت تحثه علي قتل الملك حين حضوره، ومن ضمن ما قالت له من أحاديث : ” ينبغي عليك أن تبدو كالزهرة البرئية، لكن كن كالافعي المجلجلة تحتها.” ( الفصل 1، المشهد رقم 7). كنا دوما ما نحاول استفزاز بنات الدفعة من ‘ذوات الدم الحار’ فيما يخص الطريقة الشريرة التي رسم بها شكسبير صورة ليدي ماكبث وكيف أنها دفعت زوجها دفعا لاغتيال الملك وإلصاق التهمة بالحراس المساكين، وذلك من أجل احماء النقاش واثراءه في المحاضرات، بل نقول لهن – اي لزميلات الدفعة – بأن كيدهن لعظيم حتي يتدخل أستاذنا الفاضل آدم شالون ويطلب منا التوقف، ولكن بكل احترام وتقدير للاراء المختلفة. خلاصة القول وزبدته هو أن الطغاة في كل زمان ومكان يوغلون في دماء الناس وينتهون نهايات دموية ولكن بعد خراب مهول يحدثونه في المجتمعات.

(3)

حديثا جدا، حاول المبدعون العرب إيجاد معالجة أدبية لقصص الطغاة الذين كتموا علي أنفاس الشعوب واشبعوها جوعا، وقتلا، وتشريدا وخصوصا الأنظمة التي ادعت بأن هناك “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة!”. كتب الشاعر الفلسطيني سميح القاسم مسرحية شعرية تسمي قرقاش مستلهما وموظفا الصورة الشعبية لشخصية سعيد قراقوش- الذي عمل وزيرا لصلاح الدين الأيوبي – حيث عمل الأول على اضطهاد الشعب وسخره لكنز المال وتنمية ثرواته علي حساب الجوعي والبشر المهانين. كثيرا ما نسمع في الثقافة السودانية أن يحتج الشخص علي امر ما فيه جور وقع عليه قائلا: ” ده حكم قرقوش ولا شنو!” أو يقال علي جور الحاكم او القاضي الذي أصدر حكما متعسفا فيه حيف علي شخص ما، أو شخصية غريبة الأطوار تمارس الغرور والبغي على الآخرين. يحكي أن قراقوش هذا جاءه رجل لديه مظلمة ويريد أن يسترد ماله الذي اقرضه لرجل آخر. ذهب الجند وقبضوا علي الرجل الذي بطرفه المال. سأله قراقوش وانتهره قائلا: ” لماذا لا تريد أن ترجع لهذا الرجل ماله الذي اقرضه إياك؟” أجاب الرجل قائلا: ” يا مولاي كلما أتيت إليه في دكانته لا أجده” كان قراقوش متئكا فجلس فقال: ” علينا بحبس الرجل صاحب المال وذلك حينما يأتي إليه المستدين ليرد له ماله عله يجده!” ليت تلك الأحكام الغريبة توقفت عند هذا الحد كما يقول سميح القاسم ولكن قراقاش هذا قام بتعين وزيرا للحزن مما تسبب في كثير من المحن والاحن أو بلغة سميح القاسم الشاعرية هو الطاغوت الذي صعد على سلم الجوع. من منا لم يستمتع بمسرحية الزعيم في بداية التسعينات، حيث اجاد عادل إمام دور الفتى الصعلوك الذى تسوقه رجليه أو الأقدار لا يهم إلى قصر الحاكم وإذ به تحت قبضة الحاشية الفاسدة لتقبضه من أجل تنفيذ مخططاتها الشريرة الفسادة وتنصبه حاكماً! حيث تم تنصيبه غصبا عنه حاكما وذلك للشبه الكبير بينه وبين الزعيم الذي رحل، إذ وجدت الحاشية أن الفرصة سانحة لتنفذ أغراضها ومصالحها وتحتاج هذا الشخص الذى يشبه الحاكم ليكون خاتما في اصابعهم للحفاظ على الامتيازات السلطوية والتحكم في الشعب.

(4)

صدق الشافعي حينما قال:

فالليالي من الزمان حبالى

مثـقـلات يلدن كل عجيب!

خرج الشعب السوداني شيبا وشبابا ضد الطاغية نميري الذي نصب نفسه إماما على الفقراء والمساكين في بلاد السودان، وهو المعروف عنه انغماسه في ملذات الحياة، مهما قال البعض بنزاهته فهو الذي مكن الإخوان المسلمين المبذرين ووضعهم علي جهاز الدولة – جماعة الجبهة الإسلامية القومية – ولا ننسي التمكين الاقتصادي وبنك فيصل الإسلامي والنشاط الغير منتج في تجارة العملة والأراضي والسيطرة على الفضاء الاجتماعي والعمل على بناء التنظيم للاستعداد للانقضاض علي الدولة.ركزت الطبقة الإسلاموية المخملية كل همها علي تثبيت دعائم حكمها علي أجساد الجوعي والمساكين وذلك عبر عدد من الماكينيزمات التي يمكن إجمالها في الآتي : استخدام الإعلام الطنان ذو البعد الواحد والبروبغاندا الكاذبة، مع استخدام كلمات خالية المضمون ولا أثر لها على حياة المواطنين : تقصير الظل الإداري، الخطة الخمسية، التنمية المستدامة، وغيرها من الكلمات التي كلما سمعتها تحسست ‘ مسدسي’ ، بالمقابل كانت هنالك الوسائل الخشنة وذلك باستخدام أجهزة القمع المختلفة من كتائب ظل، بيوت الأشباح سيئة السمعة، والجيش والمليشيات لضرب الحركات التي كانت تطالب بإزالة التهميش من قبل المركز الغاشم الذي رحلت معه الي بورتسودان لتتقاسم معه ريع الإغاثة وما تبقي من ذهب السودان. انشغلت الطبقة الاسلاموية بقضية جمع الثروة ومراكمتها وبكل السبل عبر استخدام جهاز الدولة والاستوزار الدائري بطريقة مقززة لم نشاهدها في تاريخ السودان القديم والحديث. ولا ننسي الانكباب علي زواج النساء من ذوات القدود المهفهفة، و الأوساط المخصرة، والعيون المكحلة حتى وصلنا إلى مرحلة المسيار. يا عيب الشوم كما يقال في الدراجية السودانية! مشروع حضاري يبدأ برفع الآذان في الفاتيكان وامريكا وروسيا قد دنا عذابها… علي إن لاقيتها ضرابها ينتهي بين “افخاذ النساء’ و 99 قطعة أرض عند أمير الجماعة وزير خارجية السيخ والأسمنت!

(5)

خلاصة القول وزبدته، الشمولية الدينية وطبقتها الإسلاموية عملت علي الاستحواذ علي الامتيازات الاقتصادية والسلطوية ولم تكتفي بهذا فقط وإنما سيطرت على الفضاء الاجتماعي والرمزي، بل حتي الماضي الذي تم إسقاطه علي الحاضر من خلال الادعاء الكاذب بالعودة إلي الجذور زورا وبهتانا لأن الصراع حول السلطة السياسية بدأ مع بواكير الإسلام ولم يستثنى حتي كبار الصحابة رضوان الله عليهم. لا غرو فالاستحواذ علي الفضاء الاجتماعي والرمزي يولد العنف والعسف، وتكون العلاقة قهرية ما بين المتسلط والمُتسلط عليه لأن تلك النصوص، والصور، والرموز يتم انزلها على شكل قوانين تعمل على الضبط المجتمعي كما هو الحال في قانون النظام العام، حتي ان الطاغية البشير قبل انتزاع الحكم منه نزعا وذهابه مدحورا قال ما يلي عن قانون النظام العام: ” قال الرئيس السوداني عمر البشير، الأربعاء، إن قانون النظام العام، والأوضاع الاقتصادية، أثارت الغضب في صفوف الشباب الذين خرجوا في مظاهرات احتجاجية على الأوضاع المعيشية. سكاي نيوز عربية، 7/فبراير /2019″.

 

ما أحوج بلادنا إلي جهاز دولة رحيما علي الفقراء والمساكين، وهم بالطبع ليسوا فقراء – الفقر ليس قدريا- ولكن الطبقة المخملية التي حكمت خلال ثلاثين عاما عجافا عملت على افقارهم وقامت بالصرف على الأجهزة القمعية وتضخيمها – صرف من لا يخشى الفقر ولكنه يخشى الهبات الشعبية – التي تجعل اجهزتها الأمنية تهتز كما عند أبو قطاطي في الحب حينما كتب لمحبوبته: ” سوات العاصف بساق الشتيل الني وفعل السيل وقت يتحدر يكس مايفضل شئ”. نحتاج إلى جهاز دولة لا يعتمد على الهبات التي تأتيه من الخارج وتُبدد في الفساد المُستشري كما السرطان في جسد المريض. نحتاج إلى وطن خالي من فضاءات الرعب الضاري، والخوف، والجوع، والقتل المجاني تحت دعاوي الحفاظ على بيضة الدين والكرامة. وطنا جديدا بدون الرجال الذين يجلبون معهم الدم والدمار، وروائح الخوف والجثث المتفحمة. لابد من أحداث قطيعة مع ميراث الاستيلاء علي جهاز الدولة باعتباره غنيمة من أجل المكسب الشخصي الذي جلب لنا خراب الوطن. سيظل الحلم بدولة العدالة الاجتماعية التي تحفظ كرامة الإنسان يجري في عروق الشعب كما يجري النيل من الجنوب إلي الشمال بلمعانه عند شروق كل شمس منذ الأزل، وستولد مدينة جديدة من تحت الرماد، والربيع يأتي بعد الشتاء الذي خلفته الحرب كما في قصيدة الشاعر المسرحي والناقد الانغلواميركي ت. س إليوت : الأرض اليباب أو الخراب التي كتبت بعد الدمار الشامل الهائل الذي احدثته الحرب العالمية الاولى والتي يحكي فيها عن الدمار في أروبا في تلك الحرب، حيث يقول:

أبريل اقسى الشهور ينبت

الليلك من الارض الموات

يمزج الذكرى بالرغبة يثير

خامل الجذور بغيث الربيع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى