“ليست الحرية غياب الالتزامات، إنما القدرة على اختيار ما هو أفضل”—عبارة تختصر رؤية فلسفية عميقة، تهدم التصور الساذج للحرية كتحرر مطلق من كل قيد، وتعيد بناءها على أساس من الوعي والمسؤولية والاختيار الأخلاقي.
الحرية بين الإطلاق والتقييد
منذ أن طرح الفلاسفة سؤال الحرية، تباينت الإجابات بين من رأى فيها قدرة مطلقة، ومن قيّدها بحدود العقل أو القانون أو الإرادة الإلهية. فالحرية لا تُفهم إلا ضمن سياقها: داخليًا، هي قدرة الإنسان على اتخاذ قراراته وفق إرادته؛ وخارجيًا، هي تفاعل هذه الإرادة مع العوامل الاجتماعية والثقافية والقانونية.
أشار الفيلسوف الإسلامي ابن رشد إلى هذه الجدلية حين قال إن أفعال الإنسان تتم بتضافر “القوى الداخلية” مع “مواتاة الأسباب من خارج”، مؤكدًا أن الإرادة الحرة لا تنفصل عن الواقع المحيط والعوائق التي يضعها. وبالتالي، الحرية لا تعني أن يفعل الإنسان ما يشاء، بل أن يكون قادرًا على الفعل في حدود الممكن والمسؤول.
الحرية والمسؤولية: علاقة لا انفصام فيها
يرى إيمانويل كانط أن الحرية هي شرط للمسؤولية الأخلاقية، بل هي خاصية الإرادة العاقلة نفسها. من لا يملك حرية القرار لا يُحاسب، ومن يُحاسب لا بد أن يكون حرًا في اختياراته. هنا تظهر الحرية لا كترف، بل كأساس أخلاقي وقانوني للعدالة.
بهذا المعنى، تصبح المسؤولية هي الوجه الآخر للحرية، فلا يمكن للإنسان أن يدعي الحرية إذا لم يكن مستعدًا لتحمّل نتائج قراراته. تمامًا كما لا يمكن لفرد أن يطالب بحقوق دون وعيه بواجباته تجاه الآخرين.
الحرية في الفضاء الاجتماعي
المجتمعات لا يمكن أن تقوم على حرية مطلقة. العبارة الشعبية “أنت حر ما لم تضر” تختصر فلسفة التعايش. فحريتي يجب ألا تُمارس على حساب حقوق غيري. من هنا تأتي ضرورة التشريعات والأعراف التي تضع حدودًا للحرية الفردية بما يضمن انسجامها مع مصلحة الجماعة.
وهذا لا يُنقص من قيمة الحرية، بل يحفظ معناها الحقيقي: أن نعيش وفق قناعاتنا دون أن نكون مصدر قيد أو أذى لغيرنا. إنها الحرية الواعية، وليست الفوضى المقنّعة باسم الفردانية.
الحرية كاختيار أخلاقي
ما يميز الإنسان عن سائر الكائنات ليس فقط وعيه بالحرية، بل قدرته على توجيهها نحو “ما هو أفضل”. الحرية هنا لا تعني فقط الاختيار، بل حسن الاختيار. فهي مسؤولية داخلية تستند إلى وعي أخلاقي، وإلى قدرة على التمييز بين الخير والشر، النافع والضار، الجميل والقبيح.
وهذا النوع من الحرية لا يأتي بالفطرة فقط، بل يحتاج إلى تربية وتعليم يُنمّيان في الإنسان روح النقد وملكة التأمل وحس العدالة. فكلما ترقّى وعي الإنسان، كلما كانت اختياراته أكثر حكمة، وكلما كانت حريته أكثر نضجًا وفاعلية.
في الختام: الحرية قيمة لا تُختزل
الحرية هي القدرة العاقلة على الاختيار المسؤول، واستخدام الإرادة في طريق الخير. إنها ليست فرارًا من الواجبات، بل وعيًا بها، وليست تمرّدًا أعمى، بل موقفًا وجوديًا يقوم على التفكّر والتمييز.
ومن هنا، فإن الحرية التي لا ترافقها مسؤولية، هي قيد في هيئة انطلاق؛ بينما الحرية التي تقوم على الوعي، تُصبح أعظم ما يُمنح للإنسان: أن يختار ما هو أفضل.
Hi, this is a comment.
To get started with moderating, editing, and deleting comments, please visit the Comments screen in the dashboard.