مقالات الرأي

اسراء الريس تكتب: تقلبات الشخصية في حالات الحروب

سودان ستار

 

 

جهلنا بحقيقتنا لا ينكشف في أوقات السلم، بل حين تهتز الأرض تحت أقدامنا، وتشتعل السماء فوق رؤوسنا. في الحروب، لا تتغير الشخصيات فقط، بل يُعاد خلقها. ما كنا نظنه صفاتنا الجوهرية، يتبخر أمام أول صفارة إنذار، أو لحظة فَقد. الإنسان الذي كنا عليه بالأمس، قد لا نجد له أثرًا في اليوم التالي.

في رواية وداعًا للسلاح لـ إرنست همنغواي، نتابع تحوّل “فريدريك هنري” من جنديّ يحمل أفكارًا رومانسية عن البطولة، إلى رجل محطّم، خائف، مدفوع فقط بالحب والنجاة. هذا الانقلاب الداخلي لا يأتي فجأة، بل ينمو ببطء مع كل جرح، كل مشهد، وكل وداع. الحرب لا تسرق فقط أطراف البشر، بل تسلبهم أوهامهم، وتتركهم أمام حقيقتهم العارية.

ليست الحرب فقط فناءً خارجيًا، إنها تمزيق داخلي، لطبقات رقيقة من الطمأنينة والاتساق. في ساعات الحرب، يصبح المرء شخصًا آخر، ليس لأنه يريد، بل لأنه مضطر. الطيب قد يحمل السلاح، والجبان قد يهرع إلى وسط النيران لينقذ طفلاً لا يعرفه. هذه ليست تناقضات، بل هي وجوه خفية في النفس البشرية، وجوه لا تُرى إلا تحت الضوء القاسي للمأساة.

في الحرب، نلبس أقنعة جديدة، لا لأجل الخداع، بل للبقاء. الأم التي كانت تغمر أولادها بالقبل، قد لا تملك الوقت لتوديعهم عند الفرار. الشاعر الذي كان يسهر على جَمال الجمل، قد يصبح ساخرًا لا يثق في كلمة.

في رواية الطاعون لألبير كامو، ورغم أنها تدور في سياق وباء، إلا أنها ترمز إلى الحصار والحرب. نرى كيف يتحول الطبيب “ريو” من رجل علم إلى كائن أخلاقي، يقاتل ليس لأنه يؤمن بالنصر، بل لأنه لا يحتمل الخضوع للعبث. هذه الفكرة، أن يفعل الإنسان الصواب حتى في مواجهة العدم، هي من تجليات الشخصية التي تُصقل في زمن الكارثة.

الشخصية، كما نعرفها، تتقشر شيئًا فشيئًا. لا تعود محكومة بمبادئ ثابتة، بل تصبح مرآة لحالة استثنائية من التشظي. قد يُصبح أكثر الناس توازنًا أسرعهم انهيارًا، ويخرج من بين الركام شخص لم يكن يُحسب له حساب، لكنه يحمل بذورًا لصبر استثنائي، أو لجنون غير متوقع.

 

وفي ثلاثية نجيب محفوظ، نرى تحوّل “كمال عبد الجواد” بعد الحرب من شاب مثقف يظن أن في الفكر خلاصًا، إلى رجل حائر تائه، يسكنه القلق واللايقين. فالحرب، وإن لم يكن في قلبها، تمر عبره، وتبدّل ملامح وجدانه، وتسرّب إلى عقيدته الفكرية شكوكًا لم يكن يجرؤ على التفكير فيها من قبل.

 

لا تنتهي الحرب بانتهاء القتال. تبقى في الوجوه، في النظرات، في الطريق الذي يعود منه الإنسان إلى نفسه متعثرًا، لا ليجد ذاته القديمة، بل ليكتشف بقايا شخصية تشبهه… ولكنها ليست هو تمامًا. يخرج من الحرب كمن نجا من غرقٍ طويل: يرتجف، لا من الماء، بل من البرّ الذي لم يعُد يعرفه.

 

ليست الشخصية قالبًا ثابتًا، بل كائن حيّ، يتلوى، يتألم، ويتغير. والحرب، بأهوالها، ليست فقط محنة للجسد، بل اختبار للروح: إمّا أن تتحطم، أو تُبعث من رمادها بهيئة جديدة… أكثر صمتًا، أكثر حكمة، وأقل قدرة على الشرح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى