قراءاتمقالات فكرية

ميرغني أبشر: قِصَّةُ ذِي النُّون: مُقَارَبَةٌ بَلَاغِيَّةٌ وَعِلْمِيَّةٌ فِي مَحْكِيِّ القُرْآن

سودان ستار

ونسة.. ميرغني أبشر

 

قِصَّةُ ذِي النُّون: مُقَارَبَةٌ بَلَاغِيَّةٌ وَعِلْمِيَّةٌ فِي مَحْكِيِّ القُرْآن

ما يشبه المقدِّمةٌ

للقصص القرآنيّ بُعدٌ يتجاوز ظاهر الحكاية، إذ يُبنى خطابُه على بلاغة العرب، ويستعير رموزهم ومعهود خطابهم للتبليغ والتمثيل والإيقاظ. ومن أبرز تلك القصص ما ارتبط بالنبي يونس، أو “ذو النون”، الذي ارتبطت حكايته بكائنٍ بُلِع في جوفه ثم خرج حيًّا، فغلبت على القصة تسمية “الحوت”. والسؤال الذي تفتحه هذه المقالة: هل كان الكائن المشار إليه في النص القرآني حوتًا بحريًا كما شاع في الأذهان؟ أم أن اللفظة تنصرف إلى ما هو أوسع من ذلك؟ وهل في الماء كائنات تملك القدرة البيولوجية على بلع كائن حيٍّ ثم لفظه دون قتله، بما ينسجم مع رمزية النجاة؟

أولًا: الإِمْكَانُ العِلْمِيُّ لِلْبَلْعِ وَالإِخْرَاجِ عِنْدَ الأَصَلَة

تُعرف الأصلة بأنها من فصائل الثعابين العملاقة القادرة على التهام فريسة بحجم يفوق جسدها بعدة أضعاف، كالغزلان والتماسيح الصغيرة. وفكّها غير ملتحم، ما يمنحها قدرة على التوسّع الشديد. وهي تنتمي إلى الكائنات البرمائية القادرة على العيش في البيئات النهرية والمستنقعات، مما يجعل وجودها في سياق قصة النبي يونس – الواردة في مشهد بحري أو نهري – متسقًا مع بيئتها المحتملة.
وقد وثّقت مراجع علمية حالات ابتلعت فيها هذه الكائنات فريسة حية بالكامل، ثم لفظتها بعد ذلك، إمّا بسبب التوتر أو عدم الاستساغة، وهو ما يتطابق مع إمكان إبقاء الكائن المبتلع حيًا داخلها لفترة (Murphy, 2010).
أما الحيتان البحرية، وإن كانت قادرة على البلع، إلا أن طبيعتها الحيوية لا تسمح بإبقاء المبتلع حيًّا، نظرًا لانعدام الأوكسجين، وبسبب طبيعة الجهاز الهضمي القاتل.

ثانيًا: فِي لُغَةِ العَرَبِ، الحُوتُ لَيْسَ الحُوتَ دَائِمًا

تُظهر معاجم العرب أن “الحوت” كان يُطلق على كل ما عَظُم من دواب البحر، وأحيانًا يُجاز به لما يبلع أو يحتوي. يقول “لسان العرب”: الحوت: كل شيء عظيم من الحيوان، وأصل التسمية من الاحتواء. يقول شاعر هم:
سَقَتْنِي حُوتٌ مِن سُلافٍ بِعَيْنِهَا
كناية عن الكأس التي تبتلع الخمر. فـ”الحوت” قد يدلّ مجازًا على “الوعاء البالع”، وهو ما يعزّز إمكان استخدام القرآن للفظ “الحوت” للدلالة على أيّ كائن ابتلع يونس، سواء أكان بحريًا خالص أم برمائياً، فالمعيار هو البلاغة لا التشريح.

ثالثًا: مَا بَيْنَ الحُوتِ وَالنُّونِ فِي التَّوْرَاةِ وَالسُّنَنِ الشَّرْقِيَّة

لم يستخدم القرآن لفظ “الحوت” مباشرة في قصة يونس، بل اختار لقب “ذو النون”، والنونُ في السريانية والآرامية تعني الكائن المتلوي، وتدلّ في بعض استعمالاتها على الثعبان أو التنّين، لا الحوت البحري (Brockelmann, 1928). وهنالك بعض البحوث والدراسات المعاصرة التي تقول بالأصل العربي للسريانية، وفي العهد القديم، يُذكر الكائن الذي ابتلع يونان دون توصيف دقيق، بينما الأساطير السومرية والأكادية تحكي عن كائنات أرضية أو نهرية تبتلع وتخرج أبطالها من “الظلمات”، في تكرار لرمزية الجوف/الرحم/العبور.

رابعًا: بَلَاغَةُ المَشْهَدِ وَفَنِّيَّةُ الإِبْلَاغِ فِي الخِطَابِ القُرْآنِيِّ

القرآن في بنائه البلاغي لا يستغرق في تحديد الأنواع البيولوجية للكائنات، بل ينتقي من معهود اللغة ما يبلّغ به الفكرة. فالحوت في المخيال العربي كائن ضخم، مُهاب، مبلِع. واستخدامه في قصة يونس يعزز رمزية العزلة، الاختناق، التحول، ثم النجاة. ولأن الأصلة تملك صفات ابتلاعية وإخراجية حقيقية، فمن المعقول أن يكون الكائن المشار إليه أقرب إليها بيولوجياً، واختير له اسم “الحوت” لتقريب الصورة إلى ذهن العربي الذي لم يكن يعرف الأصلة ككائن مألوف.

ما يشبه الخاتِمَةٌ:

إن مقاربة قصة “ذو النون” بين العلم والبلاغة تكشف عن عمق التوظيف القرآني للغة العرب، حيث تُستعمل الألفاظ وفق ما تعهده العرب لا وفق ما تسطره العلوم الحديثة. وليس ثمة تعارض بين أن يكون الكائن أشبه بالأصلة وأن يُسمّى حوتًا، لأن المقصود هو التصوير الرمزي لحالة الاحتواء والابتلاع والنبذ. وهكذا، فإن إعادة قراءة القصة تفتح بابًا لفهم أعمق لبلاغة القرآن حين يُبلّغ بلسان قومٍ يفهمون، لا بلسان مختبرٍ لا يدرك المجاز.

المراجع:

1.Murphy, J. (2010). Giant Constrictor Snakes: Biological and Management Profiles and an Establishment Risk Assessment for Nine Large Species. USGS.
2.Brockelmann, C. (1928). Lexicon Syriacum. Halle: Max Niemeyer Verlag.
3/ ابن منظور. لسان العرب. مادة: حوت.

 

 

المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى