رشا عوض تكتب: الحرب السودانية كشف المستور والحنكشة السياسية!

الحرب السودانية كشف المستور والحنكشة السياسية!
رشا عوض
كشفت هذه الحرب الكوز المستتر والغواصات الامنية في الاحزاب ومنظمات المجتمع المدني ولجان المقاومة ، وكشفت التصنيعات الاستخباراتية المتنكرة في ازياء ثورية او نسوية او اعلامية او مدونين في وسائل التواصل الاجتماعي ، كشفت شبكات الاختراق في كل مفاصل المجتمع الفنية والرياضية والاجتماعية والاقتصادية!
“ما يجي زول ناطي ” يقول لي كل من يختلف معكم ليس بالضرورة كوز او امنجي او غواصة !!
طبعا ليس كل من يختلف في الرأي تطاله مثل هذه التصنيفات، فنحن دعاة ديمقراطية والديمقراطية باختصار هي شرعة الاختلاف!
لكن تلك الاتهامات تكون مشروعة في حق من يتبنى المواقف الاتية:
اولا: الاستماتة في تبرئة الكيزان من اشعال الحرب وانكار دورهم في هذه المأساة ، يمكن ان نتغالط في من اطلق الطلقة الاولى، ولكن هل الحرب اشتعلت من الطلقة الاولى فقط؟ ام من معطيات كثيرة وكبيرة على رأسها واقع تعدد الجيوش وفساد المؤسسة العسكرية الرسمية كلها بجيشها وامنها ودعمها السريع ، والاصرار على السلاح كرافعة للسلطة في ظل وجود مؤسسة عسكرية متعددة الاجنحة المتنافسة على السلطة ووجود حركات مسلحة وكتائب ظل كيزانية ، ومعارضة الانتقال الديمقراطي ، هل يوجد شخص نزيه ينكر دور الكيزان المحوري والذي يفوق دور اي طرف اخر في كل ذلك؟ هذا في حال تجاهلنا لحقيقة ان الكيزان هم المستفيد الاكبر بل الوحيد من هذه الحرب وقد هددوا بها تصريحا لا تلميحا في فيديوهات موثقة.
ثانيا: الذي يبذل قصارى جهده في غسيل الكيزان من اي علاقة بالحرب رغم انخراطهم فيها عسكريا وسياسيا واعلاميا وظهورهم البائن كاولياء امر الحرب، ويزجر الاخرين عن فضح دورهم فيها ويمتعض من مجرد ذكرهم في سياق مناقشة المسؤولية عن الحرب!! وفي ذات الوقت يستميت في تجريم القوى المدنية المعارضة للكيزان ويستميت في تحميلها مسؤولية الحرب بحجة ان فشلها هو سبب الحرب!!
ان القوى السياسية السودانية بكل احزابها وتحالفاتها لها عيوب بنيوية، ولها اخطاء بعضها استراتيجي وبعضها تكتيكي، والاختلاف معها مشروع ونقدها المستمر واجب ، لكن غسيل الكيزان من دم الحرب وتلطيخه في ثياب مدنيين عزل دعاة سلام “دا شغل غواصات” او كيزان مستترين او على احسن الفروض ناس اغبياء وسذج!
ثالثا: الذي يغالط في البداهات من اجل خدمة السردية الكيزانية للحرب ، مثلا المغالطة في بداهة ان الحرب في حد ذاتها هي سبب معاناة المواطنين المدنيين وان هناك ملايين خرجوا من ديارهم ليس لان الد.عم السريع طردهم بل بسبب انعدام الماء والكهرباء والرعب الذي تثيره الاشتباكات العسكرية اذ يدخل الرصاص والقذائف المدفعية داخل بيوت الناس فضلا عن رعب الانفجارات، وطبعا انتهاكات الد.عم السريع ايضا اجبرت ملايين على الخروج ولكن واقع الحرب طرد السودانيين خارج وطنهم حتى الذين هم في ولا يات لم تصلها الحرب غادروا البلاد فرارا من الازمات الاقتصادية وانهيار الخدمات والتخوف من وصول الحرب في اي لحظة، ولذلك يجب الوقوف ضد الحرب من حيث هي لانها بيئة خصبة للانتهاكات وسبب لقتل وتشريد المواطنين ( عذرا لذكر هذه البداهات ولكن هناك من يغالط فيها ) ، يأتي الشخص المغالط ويقول ان المشكلة الوحيدة والاولى والاخيرة هي انتهاكات الجنجوويد ولذلك يجب استمرار الحرب الى حين القضاء عليهم! طبعا استمرار الحرب هو خيار الكوز المستفيد منها والراغب في العودة الى السلطة بواسطتها! وليس خيار المواطن العادي المتضرر من الانتهاكات! لان استمرار الحرب يعني بالضرورة استمرار الانتهاكات وتفاقمها سواء انتهاكات الد.عم السريع او انتهاكات الجيش او كتائب الكيزان، المغالط بالوكالة يزعم ان المنتهك الوحيد هو الد.عم السريع ولكنه يغض الطرف تماما عن قصف الطيران للمواطنيين بالبراميل المتفجرة ، وعن ذبح سكان الكنابي بل وذبح قيادات الاحزاب السياسية كما حدث لرئيس حزب الامة في ام روابة ، وعن اعتقال وتعذيب المواطنين بالشبهة وعن سرقة الاغاثة وبيعها في الاسواق! الشخص النزيه مثلما يدين ما ارتكبه الد.عم السريع من قتل واغتصاب ونهب لممتلكات المواطنين وتعذيب بالشبهة وقتل للاسرى يجب ان يدين بذات القدر انتهاكات الجيش وكتائب الكيزان وقواتهم الامنية.
والشخص النزيه لا يمكن ان يغالط في ان اول خطوة نحو لجم كل هذا التوحش هي ايقاف الحرب! خصوصا ان استمرارها وان قضى على الد.عم السريع تماما- وهذا غير واقعي لان الراجح لو استمرت الحرب طويلا هو تقسيم جديد للسودان بفصل دارفور واجزاء من كردفان- فان القضاء على الد.عم السريع حتى لو تحقق فلن يقضي على واقع ” التمليش ” في السودان! اذ ان الجيش يخوض هذه الحرب معتمدا على عدد متزايد من المليشيات( درع السودان والمشتركة ومليشيات البراء بن مالك والبرق الخاطف والبنيان المرصوص وهيئة العمليات التابعة للامن ومليشيات شرق السودان الاربعة والمليشيات قيد التكوين والتدريب في ارتريا وهي غير معلومة العدد ولا الاهداف )! وتعدد المليشيات المتنافسة على السلطة والموارد لا يعني سوى حروب متناسلة في طريقها الينا !! فلماذا لا نتجه كمتضررين من الحرب نحو ايقافها على اساس مشروع سياسي يجفف منابع التمليش ومنابع الانتهاكات عبر اعادة بناء المؤسسة العسكرية على اسس جديدة فنصل بارادتنا الوطنية الى معادلة للعيش المشترك بسلام في ظل جيش قومي مهني واحد يحمينا ولا يضعنا بين خيارين : يحكمنا او يقتلنا ان رفضنا حكمه !!
لن تكتمل الصورة حول تفسير ردود الافعال السودانية تجاه هذه الحرب بدون الغوص عميقا في ترسبات صراع ( البحر والغرب ) في الذاكرة الجمعية ومناقشة التحيزات الثقافية المسبقة للعقل الجمعي في شمال ووسط السودان ضد الغرب ، وهي تحيزات ذات ابعاد مركبة من اكثرها تأثيرا في الواقع المعاصر ” صراعات الدولة المهدية”.
الحديث تفصيلا حول ذلك يطول، ولكن لو تساءلنا عن سبب نجاح استشراء خطاب الكراهية الشعبوي ضد ” الحواضن الاجتماعية ” لقوات الد.عم السريع والتواطؤ بالصمت واحيانا التأييد السافر لاستهداف مناطقها بالطيران والسلاح الكيماوي ، لن نجد سببا لذلك سوى التحيزات المسبقة عميقة الجذور ضد الغرب! صحيح قوات الد.عم السريع ارتكبت انتهاكات كبيرة اشعلت الغضب والغبن والكراهية ضدها ولكن هل هذه اول مرة يشهد فيها السودان حربا وانتهاكات؟ السودان على مر تاريخه كان مهدا للحروب والانتهاكات الاكثر بشاعة من انتهاكات حرب الخامس عشر من ابريل ٢٠٢٣ ، حروب جنوب السودان ودارفور وجبال النوبة حصدت اعدادا من القتلى والجرحى والمشردين والمعذبين وشهدت صنوفا من الانتهاكات تفوق بشكل حاسم ما تعرض له سكان الخرطوم والجزيرة وسنار خلال هذه الحرب! فلماذا لم تتساوى نبرة الغضب والاحتجاج ودرجة الحساسية ضد الانتهاكات تجاه كل الحروب على حد سواء؟ لماذا لم يتواطأ عقل “الشمال السياسي” – وهنا لا بد ان اوضح منعا لاي لبس ان المقصود بالشمال السياسي هو عقلية ومنهجية تفكير الدولة المركزية ومشروعها الاستعلائي ، وهو مشروع يعارضه بعض المنتمين اثنيا وجهويا للشمال ويستميت في الدفاع عنه لاسباب ايدولوجية او مصلحية بعض الدارفوريين والنوبة والجنوبيين- لماذا لم يتواطأ هذا العقل على اشهار الكرت الاحمر في وجه الجيش بسبب القتل والاغتصاب واحراق القرى وصناعة المليشيات خصيصا لتفعل ذلك تحت رعايته وبمشاركته في الجنوب ودارفور وجبال النوبة وحتى في قلب الخرطوم اطلق الرصاص على رؤوس وصدور المتظاهرين العزل ؟ ولكن هذا العقل يشهر الكرت الاحمر الان في وجه ” الد.عم السريع” بسبب الانتهاكات ؟ وينسى او يتناسى المؤسسة الام التي خرج الد.عم السريع نفسه من رحمها او بمعنى ادق من رحم عجزها عن محاربة الحركات المسلحة التي تمردت على الدولة في دارفور! والان تصطف ذات الحركات مع ذات الجيش في حرب ” كرامة الكيزان” !!
لن نعبر الى وطن معافى ومتعايش سلميا الا بمناقشة جريئة لكل هذه المفارقات بعيدا عن تبسيطات ” الحنكشة السياسية” المنتشرة هذه الايام ومن تجلياتها رفع حاجب الدهشة تجاه ما حدث في هذه الحرب وكأنه حدث في بلادنا للمرة الاولى بفعل كائنات غريبة هبطت من الفضاء الخارجي او انبعثت من اوكار الجن في باطن الارض ! الصور البشعة التي رأيناها هذه المرة في نمرة اثنين والمنشية والرياض والصافية هي الصور المعتادة لعشرات السنين في مناطق اخرى من السودان ! لاننا غفلنا او تغافلنا عن ما كان يحدث هناك بل كان بعضنا ينكره انتقل الينا هنا في العاصمة وحواضر المركز !! فهل نتمادى في الغفلة بعد ان رأينا وفي عقر دارنا نتائج فساد المنظومة الامنية والعسكرية المسيطرة على بلادنا ؟ اما آن الاوان ان نبحث بجدية عن مكامن الازمة ام نظل اسرى التحيزات المسبقة؟